اختلف المتکلّمون فی ذلک، فذهب الجمهور إلى أنّهما مخلوقتان، و أکثر المعتزلة و الخوارج و طائفة من الزیدیة ذهبوا إلى خلاف ذلک، قال الشیخ المفید:
إنّ الجنة و النار فی هذا الوقت مخلوقتان، و بذلک جاءت الأخبار، و علیه إجماع أهل الشرع و الآثار، و قد خالف فی هذا القول المعتزلة و الخوارج و طائفة من الزیدیة، فزعم أکثر من سمّیناه أنّ ما ذکرناه من خلقهما من قسم الجائز دون الواجب، و وقفوا فی الوارد به من الآثار، و قال من بقی منهم بإحالة خلقهما. (1)
و استدلّ القائلون بکونهما مخلوقتین بالآیات الدالّة على أنّ الجنة أعدَّت للمتّقین و النار أُعدَّت للکافرین. (2)
و قد احتمل السیّد الرضی فی «حقائق التأویل» أن یکون التعبیر بالماضی لقطعیة وقوعه، فکأنّه قد کان (3) و له نظائر فی القرآن الکریم.
أقول: ممّا یدلّ على أنّ الجنة مخلوقة قوله تعالى: «وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى – عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى – عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى» (4)
و لم یر التعبیر عن الشیء الّذی سیتحقّق غداً بالجملة الاسمیة.
ثمّ إنّ هناک روایات متضافرة مصرّحة بأنّ الجنّة و النار مخلوقتان، فلا یمکن العدول عنها. (5)
و استدلّ النافون لخلقهما بوجوه:
1. إنّ خلق الجنة و النار قبل یوم الجزاء عبث.
و فیه أن الحکم بالعبثیة یتوقّف على العلم القطعی بعدم ترتّب غرض علیه، و من أین لنا العلم بهذا؟ و یمکن عدّ ذلک من مصادیق لطفه تعالى کما أشار إلیه المحقّق اللاهیجی. (6)
2. إنّهما لو خلقتا لهلکتا لقوله تعالى: «کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (7)
و اللازم باطل للإجماع على دوامهما، و للنصوص الشاهدة بدوام أُکُل الجنّة و ظِلِّها.
یلاحظ علیه: أنّه لیس المراد من «هالک» هو تحقّق انعدام کلّ شیء و بطلان وجوده، بل المراد أنّ کلّ شیء هالک فی نفسه باطل فی ذاته، هذا بناء على کون المراد بالهالک فی الآیة، الهالک بالفعل، و أمّا إذا أُرید منه الاستقبال- بناءً على ما قیل من أنّ اسم الفاعل ظاهر فی الاستقبال- فهلاک الأشیاء لیس بمعنى البطلان المطلق بعد الوجود بأن لا یبقى منها أثر، فإنّ آیات القرآن ناصّة على أنّ کلّ شیء مرجعه إلى اللّه و إنّما المراد بالهلاک على هذا الوجه، تبدّل نشأة الوجود و الانتقال من الدنیا إلى الآخرة، و هذا یختصّ بما یکون وجوده وجوداً دنیویاً محکوماً بأحکامها، فالجنّة و النّار الأخرویان خارجان من مدلول الآیة تخصّصاً.
و قد أجیب عن الإشکال بمنع الملازمة، و حمل دوام أُکُلِها و ظلّها على دوامها بعد وجودها و دخول المکلّفین فیها. (8)
1) أوائل المقالات: 141- 142، الطبعة الثانیة؛ و لاحظ: شرح المقاصد: 5 / 108، و شرح التجرید للقوشجی: 507.
2) قواعد المرام: 167.
3) حقائق التأویل: 247.
4) النجم: 13- 15.
5) لاحظ بحار الأنوار: 8 / 119 و 196، باب الجنة، الأحادیث 34، 129، 130.
6) گوهر مراد: 661 (فارسی).
7) القصص: 88.
8) قواعد المرام: 168.