إذا کانت الحیاة البرزخیة هی المرحلة الأُولى من الحیاة بعد الدنیا، یظهر لنا أنّ ما اتّفق علیه المسلمون من سؤال المیّت فی قبره، و عذابه إن کان طالحاً، و إنعامه إن کان مؤمناً صالحاً، صحیح لا غبار علیه، و أنّ الإنسان الحیّ فی البرزخ مسئول عن أمور، ثمّ معذّب أو منعّم.
قال الصدوق:
اعتقادنا فی المسألة فی القبر أنّها حق لا بدّ منها، و من أجاب الصواب، فاز بروحٍ و ریحان فی قبره، و بجنّة النعیم فی الآخرة، و من لم یجب بالصواب، فله نُزُلٌ من حمیم فی قبره، و تصلیة جحیم فی الآخرة.
و قال الشیخ المفید:
جاءت الآثار الصحیحة عن النبیّ أنّ الملائکة تنزل على المقبورین فتسألهم عن أدیانهم، و ألفاظ الأخبار بذلک متقاربة، فمنها أنّ ملکین للّه تعالى، یقال لهما ناکر و نکیر، ینزلان على المیت فیسألانه عن ربّه و نبیّه و دینه و إمامه، فإن أجاب بالحقّ، سلّموه إلى ملائکة النعیم، و إن ارتج سلّموه إلى ملائکة العذاب. و فی بعض الروایات أنّ اسمی الملکین اللذین ینزلان على الکافر: ناکر و نکیر، و اسمی الملکین اللذین ینزلان على المؤمن: مبشّر و بشیر.
إلى أن قال:
و لیس ینزل الملکان إلّا على حی، و لا یسألان إلّا من یفهم المسألة و یعرف معناها، و هذا یدلّ على أنّ اللّه تعالى یحیی العبد بعد موته للمسألة، و یدیم حیاته لنعیم إن کان یستحقّه، أو لعذاب إن کان یستحقّه. (1)
و الظاهر اتفاق المسلمین على ذلک، یقول أحمد بن حنبل:
و عذاب القبر حق، یسأل العبد عن دینه و عن ربّه، و یرى مقعده من النار و الجنّة، و منکر و نکیر حق. (2)
و قد نسب إلى المعتزلة إنکار عذاب القبر، و النسبة فی غیر محلّها، و إنّما المنکر واحد منهم، هو ضرار بن عمرو، و قد انفصل عن المعتزلة، صرّح بذلک القاضی عبد الجبار المعتزلی. (3)
هذا کلّه ممّا لا ریب فیه، إنّما الکلام فیما هو المراد هنا من القبر، و الإمعان فی الآیات الماضیة الّتی استدللنا بها على الحیاة البرزخیة، و الروایات الواردة حول البرزخ، تعرب بوضوح عن أنّ المراد من القبر، لیس هو المکان الّذی یدفن فیه الإنسان، و لا یتجاوز جثَّته فی السَّعة، و إنّما المراد منه هو النشأة الّتی یعیش فیها الإنسان بعد الموت و قبل البعث، و إنّما
کنّی بالقبر عنها، لأنّ النزول إلى القبر یلازم أو یکون بدءاً لوقوع الإنسان فیها.
و الظاهر من الروایات تعلّق الروح بأبدان تماثل الأبدان الدنیویة، لکن بلطافة تناسب الحیاة فی تلک النشأة، و لیس التعلّق بها ملازماً لتجویز التناسخ، لأنّ المراد من التناسخ هو رجوع الشیء من الفعلیة إلى القوّة، أعنی عودة الروح إلى الدنیا عن طریق النطفة، فالعلقة، فالمضغة إلى أن تصیر إنساناً کاملًا، و هذا منفی عقلًا و شرعاً، کما تقدّم، و لا یلزم هذا فی تعلّقها ببدن ألطف من البدن المادی، فی النشأة الثانیة.
قال الشیخ البهائى:
قد یتوهّم أنّ القول بتعلّق الأرواح، بعد مفارقة أبدانها العنصریة، بأشباح أُخر- کما دلّت علیه الأحادیث- قول بالتناسخ، و هذا توهّم سخیف، لأنّ التناسخ الّذی أطبق المسلمون على بطلانه، هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها، بأجسام أخر فی هذا العالم، و أمّا القول بتعلّقها فی عالم آخر، بأبدان مثالیة، مدّة البرزخ، إلى أن تقوم قیامتها الکبرى، فتعود إلى أبدانها الأولیّة بإذن مُبدعها، فلیس من التناسخ فی شیء. (4)
1) تصحیح الاعتقاد: 45- 46.
2) السنّة: 47؛ و لاحظ: الإبانة للأشعری: 27.
3) شرح الأُصول الخمسة: 730.
4) بحار الأنوار: 6 / 277.