قال سبحانه: «وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ» (1)
الاستدلال بالآیة على المقصود رهن بیان أمرین:
الأوّل: ما هو المقصود من الإمامة الّتی أنعم اللّه سبحانه بها على نبیّه الخلیل علیه السلام؟
الثانی: ما هو المراد من الظالمین؟
أما الأوّل: فقال بعضهم: إنّ المراد من الإمامة، هی النبوّة و الرسالة، و یردّه إنّ إبراهیم کان نبیّاً قبل تنصیبه إماماً، و ذلک لأنّه طلب الإمامة لذریَّته، فکان له عند ذلک ولد أو أولاد، و لا أقلّ من کون الولد و الذریّة مرجوّا له. مع أنّ القرآن یحکى أنّ إبراهیم علیه السلام تعجّب من بشارة الملائکة إیّاه بالولد: «قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِی عَلى أَنْ مَسَّنِیَ الْکِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ» (2) فإبراهیم کان نبیاً و رسولًا و لم یکن له ولدٌ و ذرّیّة حتى مسّه الکبر، ثمّ رزق ولداً فی أوان الکبر بنصّ القرآن الکریم، حیث قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی وَهَبَ لِی عَلَى الْکِبَرِ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ» (3) فطلب الإمامة لذریّته. و على ذلک یجب أن تکون الإمامة الموهوبة للخلیل غیر النبوّة، و الظاهر أنّ المراد منها هی القیادة الإلهیة
للمجتمع، مضافاً إلى تحمّل الوحی و إبلاغه، فإنّ هناک مقامات ثلاثة:
1. مقام النبوّة، و هو منصب تحمّل الوحی.
2. مقام الرسالة، و هو منصب إبلاغه إلى الناس.
3. مقام الإمامة، و هو منصب القیادة و تنفیذ الشریعة فی المجتمع بقوّة و قدرة.
و الإمامة الّتی یتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبیّ الأکرم صلى الله علیه و آله، تتّحد واقعیتها مع هذه الإمامة.
و أمّا الثانی: أعنی المراد من الظّالمین، فالظلم فی اللغة هو وضع الشیء فی غیر موضعه و مجاوزة الحدّ الّذی عیّنه الشّرع، و المعصیة من وضع الشیء (العمل) فی غیر موضعه، فالمعصیة من مصادیق الظلم، قال سبحانه:
«وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (4)
ثمّ إنّ الظاهر من صیغة الجمع المحلّى باللام، إنّ الظلم بکلّ ألوانه و صوره مانع عن نیل هذا المنصب الإلهی، و تکون النتیجة ممنوعیّة کلّ فرد من أفراد الظَّلَمة عن الارتقاء إلى منصب الإمامة، سواء أ کان ظالماً فی فترة من عمره ثمّ تاب و صار غیر ظالم، أو بقی على ظلمه، فالظالم عند ما یرتکب الظلم یشمله قوله سبحانه: «لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ» فصلاحیته بعد ارتفاع الظلم یحتاج إلى دلیل.
و على ذلک فکلّ من ارتکب ظلماً و تجاوز حدّاً فی یوم من أیّام عمره، أو عبد صنماً، و بالجملة ارتکب ما هو حرام، فضلًا عمّا هو کفر، لیس له أهلیّة منصب الإمامة، و لازم ذلک کون الإمام طاهراً من الذنوب من لدن وضع علیه قلم التکلیف، إلى آخر حیاته، و هذا ما یرتئیه الإمامیة فی عصمة الإمام.
و ممّا یؤکّد ما ذکرناه أنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:
1. من کان طیلة عمره ظالماً.
2. من کان طاهراً و نقیّاً فی جمیع فترات عمره.
3. من کان ظالماً فی بدایة عمره، و تائباً فی آخره.
4. عکس الثالث.
و حاشى إبراهیم علیه السلام أن یسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذریّته، و قد نصَّ سبحانه على أنّه لا ینال عهده الظالم، و هو لا ینطبق إلّا على القسم الثالث، فإذا خرج هذا القسم بقی القسم الثانی و هو المطلوب. (5)
1) البقرة: 124.
2) الحجر: 54.
3) إبراهیم: 39.
4) البقرة: 229.
5) انظر: المیزان فی تفسیر القرآن: 1 / 274.