قد حاول المتجدّدون من متکلّمی أهل السنّة، صبَّ صیغة الحکومة الإسلامیة على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبی و استدلّوا على ذلک بآیتین:
الآیة الأُولى: قوله سبحانه: «وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ» (1)
فاللّه سبحانه أمر نبیّه بالمشاورة تعلیماً للأُمّة حتى یشاوروا فی مهامّ الأُمور و منها الخلافة.
یلاحظ علیه: أوّلًا: أنّ الخطاب فی الآیة متوجّه إلى الحاکم الّذی استقرّت حکومته، فیأمره سبحانه أن ینتفع من آراء رعیته، فأقصى ما یمکن التجاوز به عن الآیة هو أنّ من وظائف کلّ الحکام التشاور مع الأُمّة، و أمّا أنّ الخلافة بنفس الشورى، فلا یمکن الاستدلال علیه بها.
و ثانیاً: أنّ المتبادر من الآیة هو أنّ التشاور لا یوجب حکماً للحاکم، و لا یلزمه بشیء، بل هو یقلّب وجوه الرأی و یستعرض الأفکار المختلفة، ثمّ یأخذ بما هو المفید فی نظره، حیث قال تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ».
کلّ ذلک یعرب عن أنّ الآیة ترجع إلى غیر مسألة الخلافة و الحکومة، و لأجل ذلک لم نر أحداً من الحاضرین فی السقیفة احتجّ بهذه الآیة.
الآیة الثانیة: قوله سبحانه:
«وَ الَّذِینَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَیْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ» (2)
ببیان أنّ کلمة «أمر» أضیفت إلى ضمیر «هم» و هو یفید العموم لکلّ أمر و منه الخلافة، فیعود معنى الآیة: إنّ شأن المؤمنین فی کلّ مورد شورى بینهم.
یلاحظ علیه: أنّ الآیة حثَّت على الشورى فیما یمت إلى شئون المؤمنین بصلة، لا فیما هو خارج عن حوزة أمورهم، و کون تعیین الإمام داخلًا فی أُمورهم فهو أوّل الکلام، إذ لا ندری- على الفرض- هل هو من شئونهم أو من شئون اللّه سبحانه؟ و لا ندری، هل هی إمرة و ولایة إلهیّة تتمّ بنصبه سبحانه و تعیینه، أو إمرة و ولایة شعبیّة یجوز للناس التدخّل فیها؟
فإن قلت: لو لم تکن الشورى أساس الحکم، فلما ذا استدلّ بها الإمام علی علیه السلام على المخالف، و قال مخاطباً لمعاویة: «إنّه بایعنی القوم الّذین بایعوا أبا بکر و عمر و عثمان على ما بایعوهم علیه»؟ (3)
قلت: الاستدلال بالشورى کان من باب الجدل حیث بدأ رسالته بقوله:
«أمّا بعد، فإنّ بیعتی بالمدینة لزمتک و أنت بالشام، لأنّه بایعنی الّذین بایعوا أبا بکر و عمر …».
ثمّ ختمها بقوله: «فادخل فیما دخل فیه المسلمون». (4)
فالابتداء بالکلام بخلافة الشیخین یعرب عن أنّه فی مقام إلزام معاویة الّذی یعتبر البیعة وجهاً شرعیاً للخلافة، و لو لا ذلک لما کان وجه لذکر خلافة الشیخین، بل لاستدلّ بنفس الشورى. و لو کان الإمام علیّ علیه السلام یرى أنّ الشورى أساس و مصدر شرعی للخلافة لم یطعن فی خلافة الخلفاء الثلاثة قبله و کلماته علیه السلام فی الخطبة الشقشقیّة و غیرها تدلّ على أنّ خلافتهم لم تکن مشروعة. و أنّه علیه السلام إنّما لم یقم بالمعارضة أو وافقهم فی شئون الحکومة فی الجملة قیاماً بمصالح الإسلام و المسلمین.
1) آل عمران: 159.
2) الشورى: 38.
3) نهج البلاغة: الرسائل، الرقم 6.
4) لاحظ: وقعة صفّین لنصر بن مزاحم (المتوفّى 212 ه): 29، و قد حذف الرضی فی نهج البلاغة من الرسالة ما لا یهمّه، فإنّ عنایته کانت بالبلاغة فحسب.