الرأى السائد بین المسلمین فی إعجاز القرآن هو کونه فی الطبقة العلیا من الفصاحة و الدرجة القصوى من البلاغة مع ما له من النظم الفرید و الأُسلوب البدیع. و هناک مذهب آخر نجم فی القرن الثالث اشتهر بمذهب الصّرفة و إلیه ذهب جماعة من المتکلّمین، و أقدم من نسب إلیه هذا القول أبو إسحاق النظّام، و تبعه أبو إسحاق النصیبی، و عبّاد بن سلیمان الصیمری، و هشام بن عمرو الفوطی و غیرهم من المعتزلة، و اختاره من الإمامیة الشیخ المفید فی «أوائل المقالات» و إن حکی عنه غیره، و السیّد المرتضى فی رسالة أسماها ب «الموضح عن جهة إعجاز القرآن» و الشیخ الطوسی فی شرحه لجمل السیّد، و إن رجع عنه فی کتابه «الاقتصاد» و ابن سنان الخفاجی (المتوفّى 464 ه) فی کتابه «سرّ الفصاحة».
و حاصل هذا المذهب هو أنّه لیس الإتیان بمثل القرآن من حیث
الفصاحة و البلاغة و روعة النظم و بداعة الأُسلوب خارجاً عن طوق القدرة البشریة، و إنّما العجز و الهزیمة فی حلبة المبارزة لأمر آخر و هو حیلولته سبحانه بینهم و بین الإتیان بمثله، فاللّه سبحانه لأجل إثبات التحدّی، حال بین فصحاء العرب و بلغائهم و بین الإتیان بمثله.
و قد أورد علیها وجوه من النقاش و الإشکال نکتفی بذکر ثلاثة منها:
الأوّل: إنّ المتبادر من آیات التحدّی أنّ القرآن فی ذاته متعال، حائز أرقى المیزات و کمال المعجزات حتى یصحّ أن یقال فی حقّه بأنّه:
«لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ کانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً» (1) (2)
الثانی: لو کان عجز العرب عن المقابلة لطارئ مباغت أبطل قواهم البیانیة، لأُثر عنهم أنّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما لیس فی حسبانهم، و لکان ذلک مثار عجب لهم، و لأعلنوا ذلک فی الناس، لیلتمسوا العذر لأنفسهم و لیقلّلوا من شأن القرآن فی ذاته. (3)
الثالث: لو کان الوجه فی إعجاز القرآن هو الصرفة کما زعموا، لما کانوا مستعظمین لفصاحة القرآن، و لما ظهر منهم التعجب لبلاغته و حسن فصاحته کما أثر عن الولید بن المغیرة، فإنّ المعلوم من حال کلّ بلیغ فصیح
سمع القرآن یتلى علیه، أنّه یدهش عقله و یحیّر لبّه و ما ذاک إلّا لما قرع مسامعهم من لطیف التألیف و حسن مواضع التصریف فی کلّ موعظة و حکایة کلّ قصَّة، فلو کان کما زعمه أهل الصرفة لم یکن للتعجّب من فصاحته وجه، فلمَّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دلَّ على فساد هذه المقالة. (4)
1) الإسراء: 88.
2) انظر: بیان إعجاز القرآن: 21.
3) لاحظ: مناهل العرفان فی علوم القرآن للزرقانی: 2 / 314.
4) الطراز: 3 / 393- 394، و هناک مناقشات أُخرى على نظریة الصرفة مذکورة فی الإلهیات: 2 / 327- 322.