قد فسّر بعض المتجددین النبوّة بالنبوغ و الوحی بلمعات ذاک النبوغ. و حاصل مذهبهم: أنّه یتمیّز بین أفراد الإنسان المتحضّر، أشخاص یملکون فطرة سلیمة و عقولًا مشرقة تهدیهم إلى ما فیه صلاح الاجتماع و سعادة الإنسان، فیضعون قوانین فیها مصلحة المجتمع و عمران الدنیا، و الإنسان الصالح الّذی یتمیّز بهذا النوع من النبوغ هو النبیّ، و الفکر الصالح المترشّح من مکامن عقله و ومضات نبوغه هو الوحی، و القوانین الّتی یسنّها لصلاح
الاجتماع هو الدّین، و الروح الأمین هو نفسه الطاهرة الّتی تفیض هذه الأفکار إلى مراکز إدراکه، و الکتاب السّماوی هو کتابه الّذی یتضمّن سننه و قوانینه.
یلاحظ علیه أوّلًا: لو صحّت هذه النظریّة لم یبق من الاعتقاد بالغیب إلّا الإعتقاد بوجود الخالق البارئ، أمّا ما سوى ذلک فکلّه نتاج الفکر الإنسانی الخاطئ، و هذا فی الواقع نوع إنکار للدین.
و ثانیاً: أنّ قسماً ممّا یقع به الوحی الإنباء عن الحوادث المستقبلة، إنباءً لا یخطئ تحقّقه أبداً، مع أنّ النوابغ و إن سموا فی الذکاء و الفطنة لا یخبرون عن الحوادث المستقبلة إلّا مع الاحتیاط و التردّد، لا بالقطع و الیقین، و على فرض إخبارهم کذلک لا یکون مصوناً عن الخطأ و الکذب.
و ثالثاً: أنّ حملة الوحی و مدّعی النبوّة- من أوّلهم إلى آخرهم- إنّما ینسبون تعالیمهم و سننهم إلى اللّه سبحانه و لا یدّعون لأنفسهم شیئاً، و لا یشکّ أحد فی أنّ الأنبیاء عباد صالحون، صادقون لا یکذبون، فلو کانت السّنن الّتی أتوا بها من وحی أفکارهم، فلما ذا یغرّون المجتمع بنسبتها إلى اللّه تعالى؟