قالوا: «إنّ العبد لو کان موجداً لفعله بقدرته فلا بدّ من أن یتمکن من فعله و ترکه، و إلّا لم یکن قادراً علیه، إذ القادر من یتمکّن من کلا الطرفین. و على هذا یتوقّف ترجیح فعله على ترکه على مرجّح، و إلّا لزم وقوع أحد الجائزین بلا مرجِّح و سبب و هو محال، و ذلک المرجِّح إن کان من العبد و باختیاره لزم التسلسل الباطل، لأنّا ننقل الکلام إلى صدور ذلک المرجِّح عن العبد فیتوقّف صدوره عنه إلى مرجِّح ثان و هکذا ….
و إن کان من غیره و خارجاً عن اختیاره، فبما أنّه یجب وقوع الفعل عند تحقّق المرجِّح، و المفروض أنّ ذلک المرجِّح أیضاً خارج عن اختیاره، فیصبح الفعل الصادر عن العبد، ضروریّ الوقوع غیر اختیاری له». (1)
و الجواب عنه: أنّ صدور الفعل الاختیاری من الإنسان یتوقّف على مقدّمات و مبادئ من تصوّر الشیء و التصدیق بفائدته و الاشتیاق إلى تحصیله و غیر ذلک من المقدمات، و لکن هذه المقدمات لا تکفی فی تحقّق الفعل و صدوره منه إلّا بحصول الإرادة النفسانیة الّتی یندفع بها الإنسان نحو الفعل، و معها یکون الفعل واجب التحقّق و ترکه ممتنعاً.
و المرجّح لیس شیئاً وراء داعی الفاعل و إرادته و لیس مستنداً إلّا إلى نفس الإنسان و ذاته، فإنّها المبدأ لظهوره فی الضمیر، إنّما الکلام فی کونه فعلًا اختیاریاً للنفس أو لا؟ فمن جعل الملاک فی اختیاریة الأفعال کونها مسبوقة بالإرادة وقع فی المضیق فی جانب الإرادة، لأنّ کونها مسبوقةً بإرادة أُخرى یستلزم التسلسل فی الإرادات غیر المتناهیة، و هو محال.
و أمّا على القول المختار، من أنّ الملاک فی اختیاریّة الأفعال کونها فعلًا للفاعل الّذی یکون الاختیار عین هویّته و ینشأ من صمیم ذاته و لیس أمراً زائداً على هویّته عارضاً علیها، فلا إشکال مطلقاً، و فاعلیة الإنسان بالنسبة إلى أفعاله الاختیاریة کذلک، فاللّه سبحانه خلق النفس الإنسانیة مختارةً، و على هذا یستحیل أن یسلب عنها وصف الاختیار و یکون فاعلًا مضطرّاً کالفواعل الطبیعیّة.
1) شرح المواقف: 8 / 149- 150، بتلخیص و تصرّف.