مع هذه البراهین المشرقة نرى أنّ الأشاعرة جوّزوا التکلیف بما لا یطاق، و بذلک أظهروا العقیدة الإسلامیة، عقیدة مخالفة للوجدان و العقل السلیم، و من المأسوف علیه أنّ المستشرقین أخذوا عقائد الإسلام عن المتکلّمین الأشعریین، فإذا بهم یصفونها بکونها على خلاف العقل و الفطرة لأنّهم یجوّزون التکلیف بما لا یطاق.
إنّ الأشاعرة استدلّوا بآیات تخیّلوا دلالتها على ما یرتئونه، مع أنّها بمنأى عمّا یتبنّونه فی المقام، و أظهر ما استدلوا به آیتان:
الآیة الأُولى: قوله تعالى: «ما کانُوا یَسْتَطِیعُونَ السَّمْعَ وَ ما کانُوا یُبْصِرُونَ» (1)
وجه الاستدلال: إنّ الآیة صریحة على أنّ المفترین على اللّه سبحانه فی الدّنیا، المنکرین للحقّ لم یکونوا مستطیعین من أن یسمعوا کلام اللّه و یصغوا إلى دعوة النبیّ إلى الحقّ مع أنّهم کانوا مکلّفین باستماع الحقّ و قبوله، فکلّفهم اللّه تعالى بما لا یطیقون علیه.
یلاحظ علیه: أنّ عدم استطاعتهم لیس بمعنى عدم وجودها فیهم ابتداءً، بل لأنّهم حرّموا أنفسهم من هذه النعم بالذنوب، فصارت الذنوب سبباً لکونهم غیر مستطیعین لسمع الحقّ و قبوله، و قد تواترت النصوص من
الآیات و الأحادیث على أنّ العصیان و الطغیان یجعل القلوب عمیاء و الأسماع صمّاء.
قال سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ». (2)
و قال سبحانه حاکیاً عن المجرمین:
«وَ قالُوا لَوْ کُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما کُنَّا فِی أَصْحابِ السَّعِیرِ». (3)
فقولهم: «لَوْ کُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ» مع اعترافهم بکونهم مذنبین یدلّ على أنّهم کانوا قادرین على ذلک، لأنّه لو لم یکونوا قادرین کان المناسب فی مقام الاعتذار أن یقولوا: «ما کنّا قادرین على أن نسمع أو نعقل فلا نعترف بالذنوب». و لقد أجاد الزمخشری فی تفسیر الآیة بقوله:
أراد أنّهم لفرط تصامّهم عن استماع الحقّ و کراهتهم له، کأنّهم لا یستطیعون السمع، و … الناس یقولون فی کلّ لسان: هذا کلام لا استطیع أن أسمعه. (4)
الآیة الثانیة: قوله تعالى:
«یَوْمَ یُکْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ یُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا یَسْتَطِیعُونَ». (5)
وجه الاستدلال: إنّه تعالى یدعوا الضالّین و الطاغین إلى السجود یوم
القیامة مع أنّهم لا یستطیعون الإجابة، و الإتیان بالسجود، فإذا جاز التکلیف بما لا یطاق علیه فی الآخرة، جاز ذلک فی الدنیا.
یلاحظ علیه: أنّ یوم القیامة دار الحساب و الجزاء، و لیس دار التکلیف و العمل، فدعوته تعالى فی ذلک الیوم لیس بداعی التکلیف و غایة العمل، بل المقصود توبیخ الطاغین و إیجاد الحسرة فیهم لترکهم السجود فی الدنیا مع کونهم مستطیعین علیه کما قال سبحانه: «وَ قَدْ کانُوا یُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ». (6)
و نظیر الآیة قوله سبحانه:
«فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَکُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ». (7)
1) هود: 20.
2) الصف: 5.
3) الملک: 10- 11.
4) الکشاف: 2 / 386.
5) القلم: 42.
6) القلم: 43.
7) البقرة: 23.