إنّ التدبُّر فی آیات الذّکر الحکیم یعطی أنّه یسلّم استقلال العقل بالتحسین و التقبیح خارج إطار الوحی ثمّ یأمر بالحسن و ینهى عن القبیح، و إلیک فیما یلی نماذج من الآیات فی هذا المجال:
1. «إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبى وَ یَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ». (1)
2. «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّیَ الْفَواحِشَ». (2)
3. «یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ». (3)
فهذه الآیات تعرب بوضوح عن أنّ هناک أُموراً توصف بالعدل و الإحسان و المعروف و الفحشاء و المنکر و البغی قبل تعلّق الأمر و النهى بها، و أنّ الإنسان یجد اتّصاف بعض الأفعال بأحدها ناشئاً من صمیم ذاته و لیس عرفان الإنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع، و إنّما دور الشرع هو تأکید إدراک العقل بالأمر بالحسن و النهی عن القبیح و بیان ما لا یستقلّ العقل فی إدراک حسنه و قبحه، و تدلّ على ما تقدّم بأوضح دلالة الآیة التالیة:
4. «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَیْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا یَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ». (4)
فإنّ الظاهر من الآیة أنّ المشرکین کانوا عارفین بقبح أفعالهم و أنّها من الفحشاء و لکنّهم حاولوا توجیه تلک الأفعال الشنیعة إمّا بکونها إبقاءً لسیرة آبائهم و هم کانوا یحسِّنون ذلک، و إمّا بکونها ممّا أمر بها اللّه سبحانه و لکنّ اللّه تعالى یخطّئهم فی ذلک و یقول إنّ اللّه لا یأمر بالفحشاء کما یخطّئهم فی اتّباعهم سیرة آبائهم بقوله:
«أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُونَ». (5)
5. «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ کَالْمُفْسِدِینَ فِی الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِینَ کَالْفُجَّارِ». (6)
6. «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِینَ کَالْمُجْرِمِینَ – ما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ» (7)
7. «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (8)
و هذه الآیات تدلّ على أنّه سبحانه اتّخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فیما تستقلّ به عقلیته، فالإنسان یجد من تلقاء نفسه قبح التسویة عند الجزاء بین المفسد و المصلح و الفاجر و المؤمن و المسلم و المجرم، کما أنّه یدرک کذلک حسن جزاء الإحسان بالإحسان، و هذا الإدراک الفطری هو السند فی حکم العقل بوجوب یوم البعث و الحساب کی یفصل بین الفریقین و یجزی کلّ منهما بما یقتضیه العدل و الإحسان الإلهی.
1) النحل: 90.
2) الأعراف: 33.
3) الأعراف: 157.
4) الأعراف: 28.
5) البقرة: 170.
6) ص: 28.
7) القلم: 36- 37.
8) الرحمن: 60.