استدلّ القائلون بالجواز بآیات من الکتاب العزیز:
1. قوله تعالى: «وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ – إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ». (1)
و توضیح الاستدلال: أنّ النظر فی اللّغة جاء بمعنى الانتظار و یستعمل بغیر صلة، و جاء بمعنى التفکّر و یستعمل ب (فی) و جاء بمعنى الرأفة و یستعمل ب (اللام) و جاء بمعنى الرؤیة و یستعمل ب (إلى) و النظر فی الآیة موصول ب (إلى) فوجب حمله على الرؤیة. (2)
یلاحظ علیه: أنّ النظر المتعدّی ب «إلى» کما یجیء بمعنى الرؤیة، کذلک یجیء کنایة عن التوقّع و الانتظار کما قال الشاعر:
وجوه ناظرات یوم بدر
إلى الرحمن یأتی بالفلاح
و کقول آخر:
إنّی إلیک لما وعدت لناظر
نظر الفقیر إلى الغنی الموسر
و قد شاع فی المحاورات: «فلان ینظر إلى ید فلان» یراد أنّه رجل معدم محتاج یتوقّع عطاء الآخر.
و التأمّل فی الآیتین بمقارنتهما بالآیتین الواقعتین فی تلوهما یهدینا إلى أنّ المراد من النظر فی الآیة، هو التوقّع و الانتظار، لا الرؤیة، و إلیک تنظیم الآیات حسب المقابلة:
«وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» و یقابلها قوله تعالى: «وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ».
«إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ». و یقابلها قوله تعالى: «تَظُنُّ أَنْ یُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ».
فالفقرتان الأولیتان تصفان الناس یوم القیامة و أنّهم على طائفتین: طائفة مطیعة و هم ذات وجوه ناضرة، و طائفة عاصیة و هم ذات وجوه باسرة، ثمّ ذکر لکلّ منهما وصفاً آخر، فللأُولى أنّهم ناظرة إلى ربّها، و للثانیة أنّهم یظنّون أن یفعل بهم فاقرة، أی یتوقّعون أن ینزل علیهم عذاب یکسر فقارهم و یقصم ظهورهم.
فالمقابلة بین الفقرة الثالثة و الرابعة تشهد على المراد من الفقرة الثالثة الّتی مضادّة للرابعة. و بما انّ الفقرة الرابعة ظاهرة فی أنّ المراد توقُّع العصاة العذاب الفاقر، یکون المراد من الفقرة الثالثة توقع الرحمة و الکرم من اللّه تعالى، لا رؤیته تعالى.
2. قوله تعالى حکایة عن موسى علیه السلام: «رَبِّ أَرِنِی أَنْظُرْ إِلَیْکَ». (3)
وجه الاستدلال: أنّ الرؤیة لو لم تکن جائزة لکان سؤال موسى جهلًا أو عبثاً. (4)
و الجواب عنه: أنّ التدبّر فی مجموع ما ورد من الآیات فی القصّة یدلّنا على أنّ موسى علیه السلام ما کان طلب الرؤیة إلّا لتبکیت قومه عند ما طلبوا منه أن یسأل الرؤیة لنفسه، حتى تحلّ رؤیته للّه مکان رؤیتهم، و ذلک بعد ما سألوه أن یریهم اللّه جهرة لکی یؤمنوا بأنّ اللّه کلّمه، فأخذتهم الصاعقة، فطلب
الکلیم منه سبحانه أن یحییهم اللّه تعالى، حتى یدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع الیهم، فلربما قالوا: «إنّک لم تکن صادقاً فی قولک إنّ اللّه یکلّمک، ذهبت بهم فقتلتهم»، فعند ذلک أحیاهم اللّه و بعثهم معه، و إلیک الآیات الواردة فی القصّة:
الف) «وَ إِذْ قُلْتُمْ یا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْکُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ». (5)
ب) «یَسْئَلُکَ أَهْلُ الْکِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَیْهِمْ کِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَکْبَرَ مِنْ ذلِکَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» (6)
ج) «وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِینَ رَجُلًا لِمِیقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَکْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِیَّایَ أَ تُهْلِکُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» (7)
د) «وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِیقاتِنا وَ کَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِی أَنْظُرْ إِلَیْکَ» (3)
فالآیتان الأُولى و الثانیة تدلّان على أنّ أهل الکتاب طلبوا من موسى أن یسأل من اللّه تعالى أن یریهم ذاته، فاستحقّوا بسؤالهم هذا العذاب و الدمار فأخذتهم الصاعقة، و الآیة الثالثة تدلّ على أنّ الّذین اختارهم موسى لمیقات
ربّه أخذتهم الرجفة، و لم تأخذهم إلّا بما فعلوه من السفاهة، و الظاهر أنّ المراد منها هو سؤال الرؤیة المذکور فی الآیتین المتقدّمتین، و المقصود من الرجفة، هی رجفة الصاعقة، کما عبّر عن هلاکة قوم صالح تارة بالرّجفة (8) و أُخرى بالصّاعقة. (9)
و بما أنّه لم یکن لموسى مع قومه إلّا میقات واحد، کان المیقات فی الآیة الثالثة نفس المیقات الوارد فی الآیة الرابعة، ففی هذا المیقات وقع السؤالان، غیر إنّ سؤال الرؤیة عن جانب القوم کان قبل سؤال موسى الرؤیة لنفسه، و القوم سألوا الرؤیة حقیقة و موسى سألها تبکیتاً لقومه و إسکاتاً لهم، یدلّ على ذلک أنّه لم یوجّه إلى الکلیم من جانبه سبحانه أیّ لوم و عتاب أو مؤاخذة و عذاب بل اکتفى تعالى بقوله:
«لَنْ تَرانِی».
3. قوله تعالى- فیما أجاب موسى عند سؤال الرؤیة لنفسه-:
«وَ لکِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکانَهُ فَسَوْفَ تَرانِی». (3)
وجه الاستدلال: «انّه تعالى علّق الرؤیة على استقرار الجبل و هو ممکن و المعلّق على الممکن ممکن، فالرؤیة ممکنة». (10)
یلاحظ علیه: أنّ المعلَّق علیه لیس هو إمکان الاستقرار، بل وجوده
و تحقّقه بعد تجلّیه تعالى على الجبل، و المفروض انّه لم یستقرّ بعد التجلّی، کما قال تعالى:
«فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً». (3)
أضف إلى ذلک أنّ المذکور فی الآیة هو استقرار الجبل فی حال النظر إلیه بعد تجلّیه تعالى علیه، و من المعلوم استحالة استقراره فی تلک الحالة، و إلیه اشار المحقّق الطوسی بقوله: «و تعلیق الرؤیة باستقرار المتحرّک لا یدلّ على الإمکان». (11)
1) القیامة: 22- 23.
2) شرح التجرید للفاضل القوشجی: 331.
3) الأعراف: 143.
4) تلخیص المحصل: 320.
5) البقرة: 55.
6) النساء: 153.
7) الأعراف: 155.
8) لاحظ: الأعراف: 78.
9) لاحظ: حم السجدة: 17.
10) تلخیص المحصل: 319؛ شرح التجرید للقوشجی: 329.
11) کشف المراد: 231؛ تلخیص المحصل: 319.