إنّ المقصود من حصر الخالقیة باللّه تعالى هو الخالقیة على سبیل الاستقلال و بالذات، و أمّا الخالقیة المأذونة من جانبه تعالى فهی لا تنافی التوحید فی الخالقیة. کما انّ المراد من السببیة الإمکانیة (اعم من الطبیعیة و غیرها) لیست فی عرض السببیة الإلهیة، بل المقصود انّ هناک نظاماً ثابتاً فی عالم الکون تجرى علیه الآثار الطبیعیة و الأفعال البشریة، فلکلّ شیء أثر تکوینی خاصّ، کما أنّ لکلّ أثر و فعل مبدأً فاعلیاً خاصّاً، فلیس کلّ فاعل مبدأً لکل فعل، کما لیس کلّ فعل و أثر صادراً من کل مبدأ فاعلی، کل ذلک بإذن منه سبحانه، فهو الّذی أعطى السببیّة للنار کما أعطى لها الوجود، فهی تؤثّر بإذن و تقدیر منه سبحانه، هذا هو قانون العلیّة العامّ الجاری فی النظام الکونی الّذی یؤیّده الحسّ و التجربة و تبتنی علیه حیاة الإنسان فی ناحیة العلم و العمل.
و بهذا البیان یرتفع التنافی البدئی بین طائفتین من الآیات القرآنیة؛
الطائفة الدالّة على حصر الخالقیة باللّه تعالى، و الطائفة الدالّة على صحّة قانون العلّیة و المعلولیة و استناد الآثار إلى مبادئها القریبة، و الشاهد على صحّة هذا الجمع، لفیف من الآیات و هی الّتی تسند الآثار إلى أسباب کونیة خاصة و فی عین الوقت تسندها إلى اللّه سبحانه، و کذلک تسند بعض الأفعال إلى الإنسان أو غیره من ذوى العلم و الشعور، و فی الوقت نفسه تسند نفس تلک الأفعال إلى مشیَّته سبحانه، و إلیک فیما یلی نماذج من هذه الطائفة:
1. انّ القرآن الکریم أسند حرکة السحاب إلى الریاح و قال: «اللَّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً» (1)
کما أسندها إلى اللّه تعالى و قال: «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ یُزْجِی سَحاباً ثُمَّ یُؤَلِّفُ بَیْنَهُ ثُمَّ یَجْعَلُهُ رُکاماً» (2)
2. القرآن یسند الإنبات تارة إلى الحبّة و یقول:
«أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ» (3) و أخرى إلى اللّه تعالى و یقول: «وَ أَنْزَلَ لَکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ» (4)
3. انّه تعالى نسب توفّى الموتى إلى الملائکة تارة و إلى نفسه أُخرى فقال: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا» (5) و قال: «اللَّهُ یَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها» (6)
4. انّ الذکر الحکیم یصفه سبحانه بأنّه الکاتب لأعمال عباده و یقول: «وَ اللَّهُ یَکْتُبُ ما یُبَیِّتُونَ» (7)
و لکن فی الوقت نفسه ینسب الکتابة إلى رسله و یقول: «بَلى وَ رُسُلُنا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ» (8)
5. لا شکّ انّ التدبیر کالخلقة منحصر فی اللّه تعالى، و القرآن یأخذ من المشرکین الاعتراف بذلک و یقول: «وَ مَنْ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللَّهُ» (9) و- مع ذلک- یصرّح بمدبّریّة غیر اللّه سبحانه حیث یقول: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (10)
6. إنّ القرآن یشیر إلى کلتا النسبتین (أی نسبة الفعل إلى اللّه سبحانه و إلى الإنسان) فی جملة و یقول: «وَ ما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لکِنَّ اللَّهَ رَمى» (11)
فهو یصف النبیّ الأعظم صلى الله علیه و آله بالرمی و ینسبه إلیه حقیقة و یقول: «إِذْ رَمَیْتَ»، و مع ذلک یسلبه عنه و یرى أنّه سبحانه الرامی الحقیقی.
هذه المجموعة من الآیات ترشدک إلى النظریّة الحقّة فی تفسیر التوحید فی الخالقیة و هو- کما تقدّم- أنّ الخالقیة على وجه الاستقلال منحصرة فیه سبحانه، و غیره من الأسباب الکونیة و الفواعل الشاعرة إنما
تکون مؤثرات و فواعل بإذنه تعالى و مشیَّته، و لیست سببیّتها و فاعلیّتها فی عرض فاعلیته تعالى، بل فی طولها.
1) الروم: 48.
2) النور: 43.
3) البقرة: 261.
4) النمل: 60.
5) الأنعام: 61.
6) الزمر: 42.
7) النساء: 81.
8) الزخرف: 80.
9) یونس: 31.
10) النازعات: 5.
11) الأنفال: 17.