إنّ هناک إشکالات طرحت حول برهان النظم یجب علینا الإجابة عنها، و المعروف منها ما طرحه دیفوید هیوم (1) الفیلسوف الانکلیزی (1711- 1776 م) فی کتابه «محاورات حول الدّین الطبیعی» (2) و هی ستّة إشکالات کما یلی:.
الإشکال الأوّل
إنّ برهان النّظم لا یتمتّع بشرائط البرهان التجریبی، لأنّه لم یجرّب فی شأن عالم آخر غیر هذا العالم، صحیح أنّا جرّبنا المصنوعات البشریّة فرأینا أنّها لا توجد إلّا بصانع عاقل کما فی البیت و السفینة و السّاعة و غیر ذلک، و لکنّنا لم نجرّب ذلک فی الکون، فانّا لم نشاهد عوالم اخر مماثلة لهذا العالم و هی مخلوقة لخالق عاقل و حکیم حتى نحکم بذلک فی خلق هذا العالم، و لهذا لا یمکن أن نثبت له علّة خالقة على غرار المصنوعات البشریّة.
و الجواب عنه: إنّ برهان النظم لیس برهانا تجریبیّاً بأن یکون الملاک فیه هو تعمیم الحکم على أساس المماثلة الکاملة بین الأشیاء المجرّبة و غیر المجرّبة، بل هو برهان عقلی یحکم العقل بعد مشاهدة النظم الحاکم على
العالم الطبیعی و التفکر فیه بأنّه مخلوقٌ موجودٍ عالم قادر مختار من دون حاجة إلى مقولة التمثیل و نحوه.
و کون إحدى مقدّمتیه حسّیّة لا یضرّ بکون البرهان عقلیّاً، فإنّ دور الحسّ فیه ینحصر فی إثبات الموضوع، أی إثبات النظم فی عالم الکون، و أمّا الحکم و الاستنتاج یرجع إلى العقل و یبتنى على محاسبات عقلیة، و هو نظیر ما إذا ثبت بالحس أنّ هاهنا مربّعاً، فإنّ العقل یحکم من فوره بأنّ أضلاعه الأربعة متساویة فی الطول.
فالعقل یرى ملازمة بیّنة بین النظم بمقدّماته الثلاث، أعنی: الترابط و التناسق و الهدفیّة، و بین دخالة الشعور و العقل، فعند ما یلاحظ ما فی جهاز العین مثلا من النظام بمعنى تحقّق أجزاء مختلفة کمّاً و کیفاً، و تناسقها بشکل یمکنها من التعاون و التفاعل فیما بینها و یتحقّق الهدف الخاص منه، یحکم بأنّها من فعل خالق عظیم، لاحتیاجه إلى دخالة شعور و عقل و هدفیّة و قصد.
الإشکال الثانی
إنّ هناک فی عالم الطبیعة ظواهر و حوادث غیر متوازنة خارجة عن النظام و هی لا تتّفق مع النظام المدّعى و لا مع الحکمة الّتی یوصف بها خالق الکون، کالزلازل و الطوفانات.
و الجواب عنه: أنّ ما تعدّ من الحوادث الکونیّة شروراً کالزلازل و الطوفانات لها نظام خاصّ فی صفحة الکون، ناشئة عن علل و أسباب معیّنة
تتحکّم علیها محاسبات و معادلات خاصّة و قد وفّق الإنسان إلى اکتشاف بعضها و إن بقی بعض آخر منها مجهولًا له بعد. (3)
و أمّا أنّها ملائمة لمصالح الإنسان أو غیر ملائمة له، فلا صلة له ببرهان النظم الّذی بصدد إثبات أنّ هناک مبدئاً و فاعلًا لعالم الطبیعة ذا علم و قدرة و إرادة، و سیجیء البحث عنها فی الفصول القادمة فانتظره.
الإشکال الثالث
ما ذا یمنع من أن نعتقد بأنّ النظام السائد فی عالم الطبیعة حاصل من قبل عامل کامن فی نفس الطبیعة، أی أنّ النظام یکون ذاتیّاً للمادّة؟ إذ لکلّ مادّة خاصیّة معیّنة لا تنفکّ عنها، و هذه الخواصّ هی الّتی جعلت الکون على ما هو علیه الآن من النظام.
و الجواب عنه: أنّ غایة ما تعطیه خاصیّة المادّة هی أن تبلغ بنفسها فقط إلى مرحلة معیّنة من التکامل الخاصّ و النظام المعیّن- على فرض صحّة هذا القول- لا أن تتحسّب للمستقبل و تتهیّأ للحاجات الطارئة، و لا أن تقیم حالة عجیبة و رائعة من التناسق و الانسجام بینها و بین الأشیاء
المختلفة و العناصر المتنافرة فی الخواصّ و الأنظمة.
و لنأت بمثال لما ذکرناه، و هو مثال واحد من آلاف الأمثلة فی هذا الکون، هب أنّ خاصیّة الخلیّة البشریّة عند ما تستقرّ فی رحم المرأة، هی أن تتحرّک نحو الهیئة الجنینیة، ثمّ تصیر إنساناً ذا أجهزة منظّمة، و لکن هناک فی الکون فی مجال الإنسان تحسُّباً للمستقبل و تهیُّؤاً لحاجاته القادمة لا یمکن أن یستند إلى خاصیّة المادّة، و هو أنّه قبل أن تتواجد الخلیّة البشریّة فی رحم الأُمّ وجدت المرأة ذات ترکیبة و أجهزة خاصّة تناسب حیاة الطفل ثمّ تحدث للأُمّ تطوّرات فی أجهزتها البدنیة و الروحیّة مناسبة لحیاة الطفل و تطوّراته.
هل یمکن أن نعتبر کلّ هذا التحسّب من خواصّ الخلیّة البشریّة، و ما علاقة هذا بذاک؟
1) DavideHume.
2) Dialogues Concerning Natural Religion.
3) فإن قلت: کون الشرور الطبیعیة تابعاً لقوانین کونیة و ناشئاً عن أسباب طبیعیة خاصّة راجع إلى النظم العلی، و النظم المقصود فی برهان النظم هو النظم الغائی، و الشرور توجب اختلال النظم بهذا المعنى.قلت: حقیقة النظم الغائی هی أنّ هناک تلاؤماً و انسجاماً سائداً فی الأشیاء تتّجه إلى غایة مخصوصة و کمال مناسب لها، و إن کان قد یتخلّف بعروض مانع عن الوصول إلى الغایة کما فی فرض الشرور.