قال المصنّف رفع اللّه درجته
السادس لو کان الحسن و القبح شرعیّین لحسن من اللّه تعالى أن یأمر بالکفر و تکذیب الأنبیاء و تعظیم الأصنام، و بالمواظبة على الزّناء و السّرقة، و النّهى عن العبادة و الصّدق، لأنها غیر قبیحة فی أنفسها، فإذا أمر اللّه تعالى بها صارت حسنة، إذ لا فرق بینها و بین الأمر بالطاعة، فانّ شکر المنعم و ردّ الودیعة و الصّدق لیست
حسنة فی أنفسها، و لو نهى اللّه تعالى عنها کانت قبیحة، لکن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجّانا لغیر غرض و لا حکمة صارت حسنة بذلک، و اتّفق أنّه نهى عن تلک فصارت قبیحة، و قبل الأمر و النهى لا فرق بینهما، و من أداه عقله إلى تقلید من یعتقد ذلک فهو أجهل الجهّال و أحمق الحمقاء إذا علم أنّ معتقد رئیسه ذلک، و إن لم یعلم و وقف علیه ثم استمر على تقلیده فکذلک، فلهذا وجب علینا کشف معتقدهم لئلا یضلّ غیرهم و لا تستوعب البلیّة جمیع النّاس أو أکثرهم (انتهى)
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: جوابه أنّه لا یلزم من کون الحسن و القبح شرعیّین بمعنى أنّ الشّرع حاکم بالحسن و القبح أن یحسن من اللّه الأمر بالکفر و المعاصی، لأن المراد بهذا الحسن إن کان استحسان هذه الأشیاء فعدم هذه الملازمة ظاهر، لأن من الأشیاء ما یکون مخالفا للمصلحة لا یستحسنه الحکیم، و قد ذکرنا أنّ المصلحة و المفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها، و إن کان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع علیه فقد ذکرنا أنّه لا یمتنع علیه شیء عقلا، لکن جرت عادة اللّه تعالى على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال، و النّهى عن ما اشتمل على مفسدة من الأفعال، فالعلم العادی حاکم بأنّ اللّه تعالى لم یأمر بالکفر و تکذیب الأنبیاء قطّ، و لم ینه عن شکر المنعم وردّ الودیعة، فحصل الفرق (1) بین هذا الأمر و النّهى بجریان عادة اللّه الذی یجری مجرى المحال العادی، فلا یلزم شیء ممّا ذکره هذا الرّجل و قد زعم أنّه فلق (2) الشّعر فی تدقیق هذا السّؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ
حتّى رتّب علیه التّشنیع و التفظیع، فیا له من رجل ما أجهله! «انتهى».
أقول [القاضى نور اللّه]
ما ذکره فی منع الملازمة من أنّ من الأشیاء ما یکون مخالفا للمصلحة لا یستحسنه الحکیم «إلخ» فرار شنیع مخالف لما مرّ: من أنّ الأشاعرة جعلوا الأفعال کلّها سواء فی نفس الأمر، و أنّها غیر منقسمة فی ذواتها إلى حسن و قبیح، و لا یتمیّز القبیح بصفة اقتضت قبحه أن یکون هو هذا القبیح و کذا الحسن، فلیس الفعل عندهم منشأ حسن و قبح و لا مصلحة و لا مفسدة و لا نقص و لا کمال، و لا فرق بین السّجود للشّیطان و السّجود للرّحمن فی نفس الأمر، و لا بین الصّدق و الکذب، و لا بین النّکاح و السّفاح، إلّا أنّ الشّارع أوجب هذا و حرّم هذا.
و قد صرّح بذلک أیضا صاحب المواقف حیث قال: القبیح عندنا ما نهی عنه شرعا و الحسن بخلافه، و لا حکم للعقل فی حسن الأشیاء و قبحها، و لیس ذلک أى حسن الأشیاء و قبحها عائدا إلى أمر حقیقیّ حاصل فی الفعل قبل الشّرع یکشف عنه الشرع کما تزعمه المعتزلة، بل الشّرع هو المثبت له و المبیّن، فلا حسن و لا قبح للأفعال قبل ورود الشّرع، و لو عکس الشارع القضیّة فحسّن ما قبّحه و قبّح ما حسّنه لم یکن ممتنعا و انقلب الأمر فصار القبیح حسنا و الحسن قبیحا «إلخ»، ثمّ قال عند بیان المعنى المتنازع فیه: و عند المعتزلة عقلی فانّهم قالوا: للفعل فی نفسه مع قطع النّظر عن الشّرع جهة محسّنة مقتضیة لاستحقاق فاعله مدحا و ثوابا، أو مقبحة مقتضیة لاستحقاق فاعله ذمّا و عقابا. ثمّ إنّها أى تلک الجهة المحسّنة أو المقبّحة قد تدرک بالضّرورة کحسن الصّدق النّافع و قبح الکذب الضّار، و قد تدرک بالنّظر کحسن الصّدق الضّار و قبح الکذب النّافع مثلا، و قد لا تدرک (3)
بالعقل لا بالضّرورة و لا بالنّظر، لکن إذا ورد الشّرع به علم أنّ ثمّة جهة محسّنة کما فی صوم آخر یوم من رمضان حیث أوجبه الشّارع، أو جهة مقبّحة کصوم أوّل یوم من شوّال حیث حرّمه الشّارع، فإدراک الحسن و القبح فی هذا القسم موقوف على کشف الشّرع عنهما بأمره و نهیه، و أمّا کشفه عنهما فی القسمین الأوّلین فهو مؤیّد بحکم العقل بهما إمّا بضرورته أو بنظره. ثمّ إنّهم اختلفوا. فذهب الأوائل منهم إلى أنّ حسن الأفعال و قبحها لذواتها لا لصفة فیها تقتضیهما، و ذهب بعض من بعدهم من المتقدّمین إلى إثبات صفة حقیقیّة توجب ذلک مطلقا أى فی الحسن و القبیح جمیعا، فقالوا: لیس حسن الفعل و قبحه لذاته کما ذهب إلیه من تقدّمنا من أصحابنا، بل لما فیه من صفة موجبة لأحدهما.
و ذهب أبو الحسین من متأخّریهم إلى إثبات صفة فی القبیح دون الحسن، إذ لا حاجة إلى صفة محسّنة له، بل یکفیه لحسنه انتفاء الصّفة المقبّحة و ذهب الجبائی إلى نفى الوصف الحقیقی فیهما مطلقا، فقال: لیس حسن الأفعال و قبحها لصفات حقیقیّة فیها، بل لوجوه اعتباریة (4) و أوصاف إضافیّة تختلف بحسب الإعتبار کما فی لطمة الیتیم تأدیبا و ظلما «انتهى کلامه».
و الحاصل أن اعتراف الأشاعرة باشتمال الفعل على ما یجده العقل قبل الشرع من صفة الکمال و النّقص و المصلحة و المفسدة الصّالحتین لمنشأیّة الأمر و النهى کما وقع عن صاحب المواقف، و قلّده فیه النّاصب هاهنا ینافی حکمهم بأنّ
الأفعال سواء فی نفس الأمر، و بعدم اشتمالها على ما یصلح أن یکون منشئا للحسن أو القبح، لا بحسب الذّات و لا بحسب شیء من الصّفات الحقیقیّة أو الاعتباریة التی قال بها الامامیّة و المعتزلة، و بعدم الفرق بین سجود الرّحمن و سجود الشیطان و نحو ذلک قبل ورود الشّرع، و بجواز عکس القضیّة فی الحسن و القبح و قلب الأمر و النّهى، فانّ تکرار هذه الکلمات فی کلام الفریقین على وجه الإطلاق إثباتا و نفیا یأبى عن إرادة التخصیص بوجه من الوجوه فتوجّه، هذا.
و أمّا حدیث جریان العادة فقد جرى علیه ما جرى و إن کان النّاصب قد زعم أنّه خرق العادة، و فلق البحر فی إجرائه هاهنا، فتذکر
1) و الظاهر أنه أرید من هذه العبارة: أن الفرق بین الأمر بالکفر و النهى عن شکر المنعم و بین غیرهما من الأوامر و النواهی بعدم جریان عادة اللّه على هذا الأمر و النهى بخلاف غیرهما من الأوامر و النواهی فیصیر هذا الأمر و النهى بمنزلة المحالات العادیة و جاریة مجراها.
2) اى شق و منه قوله تعالى فی سورة الانعام الآیة 95.
3) قال المصنف «قده» فی نهایة الوصول: ان الجهة المحسنة او المقبحة التی لا یدرکها العقل هی ما اشتمل علیه الفعل من اللطف المانع من الفحشاء و الداعی الى الطاعة لکن العقل لا یستقل بمعرفته انتهى. منه «قده».
4) و الیه ذهب أکثر أصحابنا الامامیة، سیما المتأخرین منهم حیث صرحوا بکون الحسن و القبح دائرین مدار الوجوه و الاعتبارات. و قد مر بیان ذلک فی التعالیق السالفة مفصلا فلیراجع.