قال المصنّف رفع اللّه درجته
قالت الإمامیّة: إن اللّه تعالى لم یفعل شیئا عبثا، بل إنّما یفعل لغرض و مصلحة، و إنّما یمرض لمصالح العباد و یعوّض المولم بالثّواب بحیث ینتفی العبث و الظلم، و قالت الأشاعرة: لا یجوز أن یفعل اللّه تعالى شیئا لغرض من الأغراض و لا لمصلحة، و یؤلم العبد بغیر مصلحة و لا غرض، بل یجوز أن یخلق خلقا فی النّار مخلّدین فیها أبدا من غیر أن یکون قد عصوا أولا.
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: مذهب الأشاعرة أنّ أفعال اللّه تعالى لیست معلّلة بالأغراض، و قالوا: لا یجوز تعلیل أفعاله تعالى بشیء من الأغراض کما سیجیء بعد هذا، و وافقهم فی ذلک جماهیر الحکماء و الإلهیّین، و هو یَفْعَلُ ما یَشاءُ و یَحْکُمُ ما یُرِیدُ (1)، إن أراد تخلید عباده فی النّار فهو المطاع و الحاکم و لا تأثیر للعصیان فی أفعاله بل هو المؤثّر المطلق «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
لا یخفى أنّ أهل السّنة یشنعون دائما على الإمامیّة و المعتزلة بموافقتهم للفلاسفة فی بعض المسائل و إن وقعت تلک الموافقة على سبیل الاتّفاق و هاهنا افتخر النّاصب بموافقة الحکماء للأشاعرة. و من المضحکات أنّه أورد بدل الفلاسفة لفظ الحکماء تبعیدا للأذهان عمّا کانوا یشنعون به غیرهم من موافقة الفلاسفة، ثمّ جعل الأشاعرة المتأخّرین عن الفلاسفة بألوف سنین متبوعا لهم من أنّ ما نسبه إلیهم من موافقتهم للأشاعرة فی نفی تعلیل أفعال اللّه تعالى عن الأغراض افتراء علیهم، و إنّما ذلک شیء فهمه بعض القاصرین عن ظواهر کلامهم، و قد صرّحوا بخلافه فی مواضع، منها ما ذکره بعض المتألهین (2) من المتأخّرین حیث قال فی خطبة بعض مصنّفاته: و الصّلاة على الغایة و المقصود محمّد منبع الوجود، ثمّ قال فی شرحه: و لقائل أن یقول إنّکم منعتم الأغراض بالنّسبة إلى أفعال الجواد المطلق و قلتم: إنّ إفاضته للوجود و لوازمه جود مطلقا فلا یستلزم لشیء من الأغراض، و إلّا لما تحقق معنى الجود کما قرّرتموه، فکیف أثبتم الغایة و جعلتموها هاهنا العلّة
فی الفیض و ذلک ینافی ما قرّرتموه؟ ثمّ أجاب بأنّا لا نمنع الغرض مطلقا و إنّما منعنا الغرض المستلزم للاستکمال أو لإظهار الکمال، و لم نمنع الغایة اللّازمة فی أفعال الکامل لأنّ فعل الکامل یجب أن یکون کاملا فی حدّ ذاته، لاستحالة أن یصدر عن الکامل ما لیس بکمال، بل أفعاله کلّها کمالات مستلزمة لحکم و أغراض و غایات تعجز العقول عن تفصیلها، و إذا تحقّق ذلک لم یلزم التّناقض بین ما قرّرناه آنفا و بین ما أثبتناه هاهنا من أنّ الغایة من الإفاضة المذکورة، و المقصود الحقیقی منها هو النشأة المحمّدیّة من حیث إنّ اتّساق الوجود على ترتیبه مؤدّیا إلى الختم بالوجود الکامل الظاهر فیه خصائص تلک الوجودات، فصحّ أن یقال: إنّها کلّها موجودة مقصودة بالعرض، لأنّها کالشّروط و الأسباب المعدّة لهذه النشأة الخاتمة فلا جرم صحّ أن یقال: إنّها الغایة و المقصود، و هذا دقیق لا یفهمه إلّا أهل اللّباب، لا من قنع بالقشور، انتهى کلامه. و أما قول الناصب و إن أراد تخلید عباده فی النّار فهو المطاع «إلخ»، ففیه أنّه یقتضی نفى الحکمة و المصلحة عن أفعاله تعالى أیضا (3) و یعلم منه أنّ ما یذکره المتأخّرون من الأشاعرة فی بعض المراتب من أنّا ننفی الغرض و الغایة دون الحکمة و المصلحة، کلام لا أصل له عندهم، و إنّما ذکروه عند ضیق الخناق و الاستحیاء عن الافتضاح عند العقلاء «انتهى».
1) اقتباس من قوله تعالى، فی سورة الحج. الآیة 18 و قوله تعالى فی سورة المائدة الآیة 1 و غیرهما من الآیات.
2) الظاهر هو المولى افضل الدین.
3) قال المصنف فی نهایة الوصول: ان النصوص دالة على أنه تعالى شرع الاحکام لمصالح العباد ثم ان الامامیة و المعتزلة صرحوا بذلک و کشفوا الغطاء حتى قالوا: انه تعالى یقبح منه فعل القبیح و العبث بل یجب ان یکون فعله مشتملا على مصلحة و غرض، و اما الفقهاء فقد صرحوا بانه تعالى انما شرع هذا الحکم لهذا المعنى و لأجل هذه الحکمة ثم یکفرون من قال بالغرض مع أن معنى الکلام الغرض لا غیر و یقولون: انه و ان کان لا تجب علیه رعایة المصالح الا انه تعالى لا یفعل الا ما یکون مصلحة لعباده تفضلا منه و إحسانا «انتهى منه قدس سره».