قال المصنّف رفع اللّه درجته
الحکم الثانی فی صحّة بقاء الأعراض، ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأعراض غیر باقیة بل کلّ لون و طعم و رائحة و حرارة و برودة و رطوبة و یبوسة و حرکة و سکون و حصول فی مکان و حیاة و طعم و علم و قدرة و ترکّب و غیر ذلک من الأعراض، فانّه لا یجوز أن یوجد آنین متّصلین، بل یجب عدمه فی الآن الثّانی من آن وجوده، و هذا مکابرة للحسّ و تکذیب للضّرورة الحاکمة بخلافه، فانّه لا حکم أجلى عند العقل من أنّ اللّون الذی شاهدته فی الثّوب حین فتح العین هو الذی شاهدته قبل طبقها، و أنّه لم یعدم و لم یتغیّر، و أىّ حکم أجلى عند العقل من هذا و أظهر منه، ثم إنّه یلزم منه محالات، الاول أن یکون الإنسان و غیره یعدم فی کلّ آن ثمّ یوجد فی آن بعده لأنّ الإنسان لیس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التی فیه عندهم، بل لا بدّ فی تحقّق کونه إنسانا من أعراض قائمة بتلک الجواهر من لون و شکل و مقدار و غیرها من مشخّصاته، و معلوم بالضّرورة أنّ کلّ عاقل یجد نفسه باقیة لا تتغیّر فی کلّ آن، و من خالف ذلک کان سوفسطائیّا و هل إنکار السّوفسطائی للقضایا الحسّیة عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنکار کلّ أحد بقاء ذاته و بقاء جمیع المشاهدات آنین من الزّمان، فلینظر المقلّد المنصف فی هذه المقالة التی ذهب إلیها إمامه الذی قلّده و یعرض على عقّله حکمه بها و هل
یقصر حکمه ببقائه و بقاء المشاهدات عن أجلى الضّروریّات، و یعلم أنّ إمامه الذی قلّده إن قصر ذهنه عن إدراک فساد هذه المقالة فقد قلّد من لا یستحقّ التّقلید و أنّه قد التجأ إلى رکن غیر شدید (1) و إن لم یقصر ذهنه عن ذلک فقد غشّه و أخفى عنه مذهبه و
قال علیه السّلام، من غشّنا فلیس منّا(2)، الثانی أنه یلزم تکذیب الحسّ الدّال على الوحدة و عدم التّغیّر کما تقدّم، الثالث انه لو لم یبق العرض إلا آنا واحدا لم یدم (خ ل لم یلزم تأیید نوعه) نوعه فکان السّواد إذا عدم لم یجب أن یخلفه سواد آخر، بل جاز أن یحصل عقیبه بیاض أو حمرة أو غیر ذلک و أن لا یحصل شیء من الألوان إذ لا وجه لوجوب ذلک الحصول، لکن دوامه یدلّ على وجوب بقائه، الرابع لو جوّز العقل عدم کلّ عرض فی الآن الثّانی من وجوده مع استمراره فی الحسّ لجوّز ذلک فی الجسم، إذ الحکم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره فی الحسّ و هذا الدّلیل لا یتمشّى لانتقاضه بالأعراض عندهم فیکون باطلا، فلا یمکن الحکم ببقاء شیء من الأجسام آنین، لکنّ الشّک فی ذلک هو عین السّفسطة، الخامس أنّ الحکم بامتناع انقلاب الشیء من الإمکان الذّاتی إلى الامتناع الذّاتی ضروریّ
و إلا لم یبق وثوق بشیء من القضایا البدیهیّة، و جاز أن ینقلب العالم من إمکان الوجود إلى وجوب الوجود فیستغنی عن المؤثّر فینسدّ باب إثبات الصّانع تعالى، بل و یجوز انتقال (خ ل انقلاب) واجب الوجود إلى الامتناع و هو ضروریّ البطلان، و إذا تقرّر ذلک فنقول: الأعراض إن کانت ممکنة لذاتها فی الآن الأوّل فتکون کذلک فی الآن الثّانی، و إلا لزم الانتقال من الإمکان الذّاتی إلى الامتناع الذّاتی و إذا کانت ممکنة فی الثّانی جاز علیها البقاء، و قد احتجّوا بوجهین، الاول: البقاء عرض فلا یقوم بالعرض، الثانی: أنّ العرض لو بقی لما عدم لأنّ عدمه لا یستند إلى ذاته و إلا لکان ممتنعا، و لا إلى الفاعل لأنّ أثر الفاعل الإیجاد، و لا إلى طریان الضدّ، لأنّ طریان الضّد على المحلّ مشروط بعدم الضّدّ الأوّل عنه، فلو علّل ذلک العدم به دار، و لا إلى انتفاء شرطه لأنّ شرطه الجوهر لا غیر، و هو باق، و الکلام فی عدمه کالکلام فی عدم العرض، و الجواب عن الأوّل المنع من کون البقاء عرضا زائدا على الذّات، سلّمنا لکن نمنع امتناع قیام العرض بمثله، فانّ السّرعة و البطوء عرضان قائمان بالحرکة و هی عرض، و عن الثانی أنّه لم لا یعدم لذاته فی الزّمان الثالث کما یعدم عندکم لذاته فی الزّمان الثانی، سلّمنا لکن جاز أن یکون مشروطا بأعراض لا تبقى، فإذا انقطع وجودها عدم، سلّمنا لکن مستند إلى الفاعل، و نمنع انحصار أثره فی الإیجاد، فانّ العدم ممکن لا بدّ له من سبب، سلّمنا لکن یعدم بحصول المانع و نمنع اشتراط طریان الثانی بعدم الضّدّ الأوّل بل الأمر بالعکس، و بالجملة فالاستدلال على نقیض الضّروری باطل کما فی شبه السّوفسطائیة فانّها لا تسمع، لما کانت الاستدلالات فی مقابلة الضّروریّات (خ ل الضّرورات) «انتهى.»
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: ذهب الأشعری و من تبعه من الأشاعرة إلى أنّ العرض لا یبقى
زمانین، فالأعراض جملتها غیر باقیة عندهم بل هی على التّقضّی و التّجدّد ینقضی واحد منها و یتجدّد آخر مثله، و تخصیص کلّ من الآحاد المتقضّیة المتجدّدة بوقته الذی وجد فیه إنّما هو للقادر المختار فانّه یخصص بمجرّد إرادته کلّ واحد منها بوقته الذی خلقه فیه و إن کان یمکن له خلقه قبل ذلک الوقت و بعده، و إنّما ذهبوا إلى ذلک لأنّهم قالوا: بأنّ السّبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث، فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصّانع بحیث لو جاز علیه العدم، تعالى عن ذلک علوّا کبیرا، لما ضرّ عدمه فی وجوده، فدفعوا ذلک بأنّ شرط بقاء الجوهر هو العرض، و لمّا کان هو متجدّدا محتاجا إلى المؤثّر دائما کان الجوهر أیضا حال بقائه محتاجا إلى ذلک المؤثّر بواسطة احتیاج شرطه إلیه، فلا استغناء أصلا، و استدلوا على هذا المدّعى بوجوه منها: أنّها لو بقیت لکانت باقیة متّصفة ببقاء قائم بها، و البقاء عرض فیلزم قیام العرض بالعرض و هو محال عندهم هذا هو المدعى و الدّلیل. و ذهبت الفلاسفة و من تابعهم من المعتزلة و الإمامیّة إلى بقاء الأعراض، و دلیلهم کما ذکر هذا الرّجل أنّ القول بخلافه مکابرة للحسّ و تکذیب للضّرورة، و الجواب أن لا دلالة للمشاهدة على أنّ المشاهد أمر واحد مستمرّ لجواز أن یکون أمثالا متواردة بلا فصل، کالماء الدّافق من الأنبوب (3) یرى أمرا واحدا مستمرّا بحسب المشاهدة و هو فی الحقیقة أمثال تتوارد على الاتّصال فمن قال: إنّه أمثال متواردة کان ینبغی على ما یزعمه هذا الرّجل أن یکون سوفسطائیّا منکرا للمحسوسات، و کذا جالس السّفینة إذا حکم بأنّ الشّط لیس بمتحرّک کان ینبغی أن یحکم بأنّه سوفسطائی لأنّه یحکم بخلاف الحسّ، و قد صوّرنا قبل هذا مذهب السّوفسطائیّة، و یا لیت هذا الرّجل کان لم یعرف لفظ السّوفسطائی، فانّه یطلقه فی مواضع لا ینبغی أن یطلق فیها و هو
جاهل بمعنى السفسطة، ثم ما قال: أن لا حکم عند العقل أجلى من أنّ اللّون الذی شاهدته فی الثّوب حین فتح العین هو الذی شاهدته قبل طبقها، فنقول: حکم العقل هاهنا مستند إلى حکم الحسّ و یمکن ورود الغلط للحسّ، لأنّه کان یحسب المثل عین الأوّل کما ذکرنا فی مثال الماء الدّافق من الأنبوب، و کثیر من الأحکام یکون عند العقل جلیّا بواسطة غلط الحسّ، فمن خالف ذلک الحکم کیف یقال إنّه مکابر للضّرورة، ثم ذکر خمس محالات ترد على مذهبهم، الأوّل أنّ الإنسان و غیره یعدم فی کلّ آن ثمّ یوجد فی آن بعده، لأنّ الإنسان لیس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد، بل لا بدّ فی إنسانیّته من اللّون و الشّکل، و کلّ هذه أعراض، و معلوم أنّ کلّ أحد یجد من نفسه أنّها باقیة لا تتبدّل فی کلّ آن، و مخالفة هذا سفسطة و الجواب أنّ الأشخاص فی الوجود الخارجی یتمایزون بهویّاتها لا بمشخّصاتها کما یتبادر إلیه الوهم فالهویّة الخارجیّة التی بها الإنسان إنسان باقیة فی جمیع الأزمنة و إن توارد علیه الأمثال من الأعراض، فهذه المشخّصات لیست داخلة فی ذاته و هویّته العینیّة حتى یلزم من تبدّلها تبدّل الإنسان، فذات الإنسان و هویّته المشخّصة له باقیة فی جمیع الأحوال، و تتوارد علیها الأعراض، و أى سفسطة فی هذا، و الطامّات و الخرافات التی یرید أن تمیل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غیر ملتفت إلیها، الثانی أنه یلزم تکذیب الحسّ، و قد عرفت جوابه، الثالث أنه لو لم یبق العرض إلا آنا واحدا لم یلزم تأیید نوعه، فکان السّواد إذا عدم لم یجب أن یخلفه سواد آخر إلى آخر الدّلیل، و الجواب أنّ السّواد إذا فاض على الجسم أعدّ الجسم لأن یفیض علیه سواد مثله، و المفیض للسّواد هو الفاعل المختار، لکن جرى عادته بإفاضة المثل بوجود الاستعداد و إن جاز التّخلّف، و لزوم النّوع یدلّ على وجوب إفاضته المثل، و هذا ینافی قاعدة القوم فی إسناد الأشیاء إلى اختیار الفاعل القادر، الرابع لو جوّز العقل عدم کلّ عرض فی الآن الثّانی من وجوده مع
استمراره فی الحسّ لجوّز ذلک فی الجسم، إذا الحکم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره فی الحسّ، و الجواب أنّ الأصل بقاء کلّ موجود مستمرا، فالحکم ببقاء الجسم لأنّه على الأصل، و تخلّف حکم الأصل فی الأعراض لدلیل خارجی، فعدم الحکم ببقاء الأعراض لم یکن منافیا للحکم ببقاء الأجسام، و أما ما قال: إنّ الشّک فی ذلک عین السّفسطة فقد مرّ جوابه، و الخامس أنّ الحکم بامتناع انقلاب الشیء من الإمکان الذّاتی إلى الامتناع الذّاتی ضروری إلى آخر الدّلیل، و الجواب أنّ الأعراض کانت ممکنة لذاتها فی الآن الأوّل، و کذلک فی الآن الثّانی، قوله: و إذا کانت ممکنة فی الثانی جاز علیها البقاء، قلنا إمکان الوجود غیر إمکان البقاء، فجاز أن یکون العرض ممکن الوجود فی الآن الثانی و لا یکون ممکن البقاء، و لیس على هذا التّقدیر شیء من الانقلاب الذی ذکره، و هذا استدلال فی غایة الضّعف کما هو دیدنه (4) فی الاستدلالات المزخرفة. ثم ما ذکر من الدّلیلین الذین احتجّ بهما الأشاعرة فأوّل الدّلیلین قد ذکرنا و ما أورد علیه من منع امتناع قیام العرض بالعرض و منع کون البقاء زائدا و ثبوتهما مذهب للشّیخ الأشعری و قد استدلّ علیهما فی محلّه فلیراجع، و ثانى الدلیلین مدخول بما ذکره و بغیره من الأشیاء، و قد ذکره علماء السّنة و الأشاعرة منهم صاحب المواقف و غیره، فاعتراضاته على ذلک الدّلیل الثّانی منقولة من کتب أصحابنا «انتهى.»
أقول: [القاضى نور اللّه]
فیه نظر أما أولا فلأنّ ما ذکره فی وجه ذهاب الأشاعرة إلى عدم بقاء الأعراض لا یسمن و لا یغنی من جوع، إذ لا تقتضی صحّة تلک المقدّمة التی اضطرّوا إلى استعمالها لدفع ذلک الإشکال لجواز أن تکون فاسدة فی نفسها کمقدّمة الطفرة التی التزمها النّظام لدفع الإشکال المشهور الوارد علیه فی تحقیق حقیقة الجسم مع ظهور بطلانها، و أیضا لو تمّ إنّما یقتضی القول بعدم بقاء الأعراض
التی یحتاج إلیها بقاء الجوهر لا عدم بقاء الکلّ کما ذهبوا (5) إلیه، و أما ثانیا فلأن ما ذکره من جملة وجوه أدلة الأشاعرة مدخول، بأنّ قیام العرض بالعرض لیس بمحال، و العندیّات (6) سیّما عندیّات الأشاعرة لا تقوم حجة على الخصم.
و أما ثالثا: فلأن ما ذکره من أنّ دلیلهم کما ذکره هذا الرّجل «إلخ» مدخول.
بأنّ الرّجل نعم الرّجل هو المصنّف قدّس سرّه لم یذکر دلیلا على ما ادعاه من بقاء الأعراض لظهور أنّه بدیهی لا یحتاج إلى دلیل، و إنّما ذکر لوازم فاسدة لدعوى الأشاعرة یحصل منها التّنبیه على ذلک المدّعى البدیهی أیضا، و الحاصل على ما أشار إلیه المصنّف فی اللازم الرّابع و شارح المواقف فی ذیل هذا المقام، أنّه کما أنّ الحکم ببقاء الأجسام ضروریّ یحکم به العقل (7) بمعونة الحسّ، کذلک الحکم ببقاء الأعراض کالألوان ضروریّ یحکم به العقل بمعونته أیضا، و ما ذکر فی صورة الاستدلال على ذلک تنبیه على حکم ضروریّ فالمناقشة فیها بأمثال توارد الأمثال لا یجدی طائلا، و أیضا قد صرّح المصنّف فی مفتتح إیراده: بأنّ التنبیه على ذلک لیس مجرّد حکم الحسّ و المشاهدة، و مع ذلک قد توهّمه النّاصب من کلامه کیف؟
و قد ضمّ قدّس سرّه إلى ذلک دعوى الضّرورة العقلیّة حیث قال: هذا مکابرة للحسّ و تکذیب للضّرورة بخلافه، فإنّه لا حکم أجلى عند العقل من أنّ اللّون «إلخ» و فیه إشارة إلى ما ذکره صاحب المواقف (8) فی تأویل ما نسب إلى أفلاطون من
قدحه فی الحسّیات، و هو أنّ جزم العقل بالحسّیات لیس بمجرّد الحسّ، بل لا بدّ مع الإحساس من امور تنضمّ إلیه، فتلجئ تلک الأمور العقل إلى الجزم بما یجزم به من الحسّیات و لا یعلم ما تلک الأمور المنضمّة إلى الاحساس الموجبة للجزم، و متى حصلت لنا و کیف حصلت؟ فلا تکون الحسّیات بمجرّد تعلق الاحساس بها یقینیّة، و هذا حقّ لا شبهة فیه، و قد صرّح سید المحققین (9) قدّس سرّه فی شرحه: بأنّ الحسّیات و البدیهیّات هما العمدة فی العلوم، و هما یقومان حجّة على الغیر، أمّا البدیهیّات فعلى الإطلاق، و أمّا الحسیّات فإذا ثبت الاشتراک فی أسبابها، أى فیما تقتضیها من تجربة أو تواتر أو حدس أو مشاهدة «انتهى»، و لا ریب فی أنّ مسألة بقاء الأعراض ممّا شارک فیها جمیع العقلاء من الحکماء و الإمامیّة و المعتزلة و من تابعهم سوى الأشاعرة الذین هم بمعزل عن الشعور و العقل.
و أما ما ذکره من التّمثیل لغلط الحسّ فی ماء الفوارة، فالغلط فیه ظاهر، لظهور سبب الغلط فیه، و عدم اشتراک جماعة من العقلاء فی إثباته، بخلاف ما نحن فیه من الجسم و أعراضه، فانّ السّبب الذی ذکروه فی غلط الحسّ عند توارد الأمثال کما فی ماء الفوارة، هو أنّ الحسّ و إن تعلّق بکلّ واحد منها من حیث خصوصه، لکنّ الخیال لم یستثبت ما به یمتاز کلّ منها عن غیره، فیخیّل الرائی أنّ هناک أمرا واحدا مستمرا، ثم العقل الخالص عن مزاحمة الوهم و الخیال یجد فی ماء الفوّارة اتّصال المدد (10) و یحکم على غلط الحسّ بأدنى توجّه و التفات، و لیس فیما ذهب إلیه النّظام و الأشاعرة من تقضّی الأجسام و الأعراض و تجدّدها وصول مدد و اتّصاله حتّى یتأتى للعقل تجویز الحکم بغلط الحسّ فی الحکم بالبقاء، و کان النّظام و الأشاعرة وقعوا فی ذلک ممّا قرّره الصّوفیّة
من الخلق (11) الجدید من غیر أن یتأمّلوا فی حقیقة ما أرادوه من ذلک، فإنّهم أرادوا بذلک أنّ الماء کما یدوم و یبقى بالعین و امدادها، کذلک الأشیاء الظاهرة کلّها تبقى بإفاضة اللّه تعالى، و لو انقطع مدد الفیض عنها لحظة لارتفعت رأسا، و لیس فی ذلک حکم بتقضّی المخلوقات و تجدّدها آنا فآنا کما ذهبوا إلیه فتأمل.
و أما رابعا فلأنّ ما أجاب به عن أوّل المحالات الخمسة التی ألزمها المصنّف قدّس سرّه فیتوجّه علیه: أنّ شارح المقاصد قال موافقا لغیره: إنّ الماهیّة إن اعتبرت مع التّحقق سمّیت ذاتا (12) و حقیقة، فلا یقال: ذات العنقاء و حقیقتها بل ماهیّتها
أى ما یتعقّل منها و إذا اعتبرت لامع التّحقّق سمّیت هویّة و قد یراد بالهویة التّشخص، و قد یراد به الوجود الخارجی «انتهى» فان أراد النّاصب بالهویّة فی قوله: الأشخاص فی الوجود الخارجی یتمایزون بهویّاتها لا بمشخّصاتها «إلخ» المهیّة المعتبرة لا مع التّحقّق ففساده ظاهر و إن أراد به الوجود فکذلک، لأنّ الوجود مشترک بین الموجودات باتّفاق الأشاعرة فکیف یوجب تمایزها؟! و إن أراد بها معنى آخر فلینبّه أولیاءه حتى ننظر فی صحّته و فساده، و أیضا إذا عزل النّاصب المشخّصات عن کونها مفیدة للتّشخّص و لیس یظهر لها مدخلیّة فی أمر سوى ذلک فقد حکم أنّها فی عدم ارتباطها بمحالها من الأشخاص بمنزلة الحجر الموضوع بجنب الإنسان و هو أسخف سفسطة أورثها إیّاه أسلافه من الأشاعرة. و أما خامسا فلأنّ ما أجاب به عن ثانی المحالات اللازمة مدفوع بما تقدّم، و أما سادسا فلأنّ ما أجاب به عن ثالث المحالات اللّازمة مدخول بأنّ حکمه بأنّ مفیض الاستعداد هو السّواد الفائض على الجسم، دون الفاعل المختار، ینافی قاعدة الأشعری من نفی مدخلیّة شیء سوى قدرته تعالى فی حدوث شیء من الأشیاء، بل صرّح صاحب المواقف فی بحث قدم إرادته تعالى: بأنّ هذا مذهب الحکماء حیث قال: و قالت المعتزلة:
إنّها حادثة قائمة بذاتها لا بذاته تعالى، فکأنّه مأخوذ من قول الحکماء: إنّه عند وجود المستعدّ للفیض یحصل الفیض «انتهى» فظهر أنّ النّاصب لضیق الخناق علیه اضطرّ فی إصلاح کلام الأشعری إلى ضمّ ما ذهب إلیه الفلاسفة مع تشنیعه على أهل العدل فی موافقتهم اتّفاقا فی بعض المقال مع الفلاسفة، و أیضا قد مرّ الکلام على قاعدة جریان العادة، و بیّنا ما فیه من القصور و العیب و أنّه فیما نحن فیه من مظانّ الرّیب من قبیل الرّجم بالغیب و أما ما ذکره من أنّ لزوم النّوع یدلّ على وجوب إفاضة المثل «إلخ»، فإن قصد به الإیراد على المصنّف قدّس سرّه، فیتوجّه أنّه لم یقل: بوجوب إفاضة المثل، و إنّما القائل به النّاصب و أصحابه، و إن قصد به الإیراد على أصحابه فهم لم یقولوا: بلزوم النّوع و وجوب دوامه على أنّه یمکن حمل کلام المصنّف على تقدیر وجوب (وجود خ ل) إفاضة المثل فیه على الوجوب العادی إلزاما فافهم، و أما سابعا فلأنّ ما أجاب به عن رابع المحالات مدفوع، بأنّ الأصل و الاستصحاب من المسائل التی اختلف الاصولیّون فی کونها صالحة للتّمسک بها فی العلوم الظنّیة أولا، فکیف یجعل حجة فیما یطلب فیه الیقین کما فیما نحن فیه؟ و أما ثامنا فلأنّ ما أجاب به عن خامس المحالات بأنّ إمکان الوجود غیر إمکان البقاء «إلخ» فمردود، بأنّ مراد المصنّف من قوله الأعراض کانت ممکنة لذاتها فی الآن الأوّل فیکون کذلک فی الآن الثّانی «إلخ» انّ الأعراض کانت ممکنة البقاء لذاتها فی الآن الأوّل أى کانت متّصفة بهذا الإمکان فیه، فیجب أن یکون ممکن البقاء فی الآن الثّانی و لم یرد أنّها ممکن الوجود فی الزّمان الأوّل، فیجب أن یکون ممکن الوجود فی الزّمان الثانی حتّى یندفع بأن إمکان الوجود فی الزّمان الثّانی باق بحاله، و إنما ارتفع إمکان البقاء فیه فیجوز أن یکون العرض ممکن الوجود فی الآن الثّانی، و لا یکون ممکن البقاء و أما تاسعا فلأنّ ما ذکره من أنّ ثبوت ما منعه المصنّف من امتناع قیام العرض بالعرض، و منع کون
البقاء زائدا مذهب الأشعری و قد استدلّ علیهما فی محلّه مجاب بقولنا: نعم قد استدلت الأشاعرة علیهما لکن بما یلیق بلحیتهم و لحیة شیخهم و شارب النّاصب الذی رزق مشرب شیخه فی الکودنة و الضّلالة، و محل ذکر ذلک الاستدلالات کتاب المواقف الذی فیه ما هو آخر کلام القوم، و أودع فیه جمیع ما أمکنهم فی الذّب عن خرافات شیخهم، فلیطالع ثمّة و أما عاشرا فلأنّ قوله: ثانی الدّلیلین مدخول بما ذکره و بغیره من الأشیاء «إلخ» فیه اعتراف لصحّة کلام المصنّف و الحمد للّه، و لیعلم أنّ هذا الدّلیل الثّانی هو العمدة عند أصحاب الأشعری کما صرّح به صاحب المواقف، و مع هذا ظهر أنّه أسخف الأدلة التی فی العالم بحیث اعترف النّاصب مع غایة تعصّبه بأنّه مدخول، و أما ما ذکره من أنّ تلک الاعتراضات ممّا ذکره علماء السّنة و الأشاعرة، منهم صاحب المواقف فان أراد بذکرهم لها مجرّد تحریرها فی کتبهم بعد وصولها إلیهم من علماء الإمامیّة، و منهم المصنّف قدّس سرّه، فهو مسلّم و لا یجدیه نفعا، و إن أراد أنّ تلک الاعتراضات من نتائج أفکار علماء أهل السّنة و الأشاعرة، فهو کذب واضح، لأنّه لم یذکر فی شیء من کتبهم إلا فی کتاب المواقف و نحوه ممّا ألف قریبا من زمان تألیفه، و الکلّ متأخر عن زمان المصنّف بسنین کثیرة کما لا یخفى.
1) اقتباس من قوله تعالى فی سورة هود. الآیة 80.
2) رواه الصدوق «قده» فی المجالس بسنده عن على بن موسى الرضا «ع» عن آبائه علیهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و اله فی حدیث: لیس منا من غش مسلما.فی صحیح مسلم (الجزء 1 ط مصر ص 69) بسنده المنتهى الى أبى هریرة: ان رسول اللّه صلى اللّه علیه و اله، قال: من حمل علینا السلاح فلیس منا، و من غشنا فلیس منا، و کذا روایة أخرى بعد هذه الروایة. و فی کنز العمال (الجزء 4 ط حیدرآباد دکن ص 33) عن أبى الحمراء من غشنا فلیس منا و کذا روایة أخرى عن أبى هریرة لیس منا من غش و أیضا من غش فلیس منا و عن على «ع» لیس منا من غش مسلما أو ضره أو ماکره، و عن أبى هریرة من غشنی فلیس منى.
3) الأنبوب: ما بین العقدتین من القصب، أو الرمح، و یستعار لکل أجوف مستدیر کالقصب و منه انبوب الکوز قصبته انتهى. ثم لو مثل الناصب بالشعلة الجوالة لکان انسب.
4) الدیدن: بفتح الدال المهملة بمعنى الطریقة.
5) و کون کل عرض مما یحتاج الیه بقاء الجسم غیر مسلم تأمل. منه قدس سره.
6) العندیات جمع مجعول لکلمة عندی، یطلق فی الکتب العلمیة على آراء الشخص التی لا تقوم علیها حجة و لا یوافقها أحد.
7) دعوى الضرورة هاهنا اتفاقیة من الفریقین، و لا فرق بینها و بین دعوى الضرورة فی بقاء العرض کما لا یخفى. منه قده.
8) فیه إشارة الى أن الناصب توارد فی هذه المناقشة مع غیره فإنها مذکورة فی المواقف. منه قده.
9) هو المحقق الشریف الجرجانی فی شرحه على المواقف.
10) المدد: بضم المیم جمع مدة، أو بفتح المیم کحجر.
11) و عبر عنه بعضهم بالأخذ و الدفع و غیرها من التعابیر فراجع.
12) الذات کما أفاد أبو البقا فی ص 172 طبع تهران من کتابه هو ما یصلح أن یعلم و یخبر عنه، منقول عن مؤنث ذو بمعنى الصاحب، لان المعنى القائم بنفسه بالنسبة الى ما یقوم به یستحق الصاحبیة و المالکیة، و لمکان النقل جعلوا تاء التأنیث عوضا عن اللام المحذوفة، فأجروها مجرى الأسماء، فقالوا ذات قدیم و ذات محدث، و قیل التاء فیه کالتاء فی الوقت و الموت فلا معنى لتوهم التأنیث الى آخر ما أفاد و أجاد.ثم اعلم أن للذات إطلاقات:منها إطلاقه على الشیء و النفس.و منها إطلاقه على الرضا و منه قولهم فلان فعل الجمیل الکذائى فی ذات اللّه و مرضاته.و منها إطلاقه على مفهوم الشیء.و منها إطلاقه على المستقل بالمفهومیة، و یقابله الصفة، بمعنى الغیر المستقل بالمفهومیة و منها إطلاقه على الشیء المستقل و یقابله التابع.و منها إطلاقه على الحقیقة اى الماهیة باعتبار تحققها کما أفاد الجرجانی فی الحدود و القاضی الشهید فی الکتاب الى غیر ذلک من الإطلاقات و الاستعمالات.ثم انک إذا أحطت خبرا و دققت النظر فیما تلى علیک لرأیت إمکان إرجاع هذه الإطلاقات بعضها الى بعض بالاعتبار فتأمل.ثم اعلم أیضا أن فی صحة اطلاق لفظ الذات علیه تعالى اختلافا فمنهم من منعه ذاهبا الى أن أسماءه توقیفیة مذکورة فی دعاء لیلة الفطر و الجوشن و توحید الصدوق و لم یذکر الذات بینها.و منهم من قال ان معناه قد اطلق علیه تعالى فان من معاینة النفس و الشیء و هما یطلقان علیه تعالى فیقال اللّه شیء لا کالأشیاء کما فی النهج.و المختار صحة إطلاقه، و التوقیف لم یقم علیه دلیل متقن سلیم السند واضح الدلالة کما هو ظاهر لمن کان من أهل الدقة.