قال المصنّف رفع اللّه درجته
المبحث التاسع فی البقاء، و فیه مطلبان الاول أنّه لیس زائدا على الذّات، و ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الباقی إنّما یبقى ببقاء زائد على ذاته، و هو عرض قائم
بالباقی، و أنّ اللّه تعالى باق ببقاء قائم بذاته، و لزمهم من ذلک المحال الذی تجزم الضّرورة ببطلانه من وجوه: الاول أنّ البقاء إن عنى به الاستمرار لزم اتّصاف العدم بالصّفة الثّبوتیة و هو محال بالضّرورة، بیان الملازمة: أنّ الاستمرار کما یتحقّق فی جانب الوجود فکذا یتحقّق فی جانب العدم، لإمکان تقسیم المستمرّ إلیهما، و مورد التّقسیم مشترک، و لأنّ معنى الاستمرار کون الأمر فی أحد الزمانین کما کان فی الزّمان الآخر، و إن عنى به صفة زائدة على الاستمرار، فان احتاج کلّ منهما إلى صاحبه دار، و إن لم یحتج أحدهما إلى الآخر أمکن تحقّق کلّ منهما بدون صاحبه، فیوجد بقاء من غیر استمرار و بالعکس، و هو باطل بالضرورة، و إن احتاج أحدهما إلى صاحبه انفکّ الآخر عنه و هو ضروری البطلان، الثانی أنّ وجود الجوهر فی الزّمان الثّانی لو احتاج إلى البقاء لزم الدّور، لأنّ البقاء عرض یحتاج فی وجوده إلى الجوهر، فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر الذی فرض باقیا کان کلّ من البقاء و وجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه و هو عین الدّور المحال، و إن احتاج إلى وجود جوهر غیره لزم قیام الصّفة بغیر الموصوف و هو غیر معقول، أجابوا بمنع احتیاج البقاء إلى الجوهر فجاز أن تقوم بذاته لا فی محلّ، و یقتضی وجود الجوهر فی الزّمان الثّانی، و هو خطأ، لأنّه یقتضی قیام البقاء بذاته فیکون جوهرا مجرّدا و البقاء لا یعقل إلا عرضا قائما بغیره، و أیضا یلزم أن یکون هو بالذاتیّة أولى من الذات، و تکون الذات بالوصفیّة أولى منه، لأنّه مجرّد مستغن عن الذات، و الذّات محتاجه إلیه، و المحتاج أولى بالوصفیّة من المستغنی، و المستغنی أولى بالذّاتیّة من المحتاج، و لأنّه یقتضی بقاء جمیع الأشیاء لعدم اختصاصه بذات دون أخرى حینئذ، الثالث أنّ وجود الجوهر فی الزّمان الثّانی هو عین وجوده فی الزّمان الأوّل، و لمّا کان وجوده فی الزّمان الأوّل غنیّا عن هذا البقاء کان وجوده فی الزّمان الثّانی کذلک، لامتناع کون بعض أفراد الطبیعة محتاجا لذاته إلى شیء
و بعض أفرادها مستغنیا عنه «انتهى.»
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: اتّفق المتکلّمون على أنّه تعالى باق، لکن اختلفوا فی کونه صفة ثبوتیّة زائدة أولا، فذهب الشّیخ أبو الحسن الأشعری و أتباعه و جمهور معتزلة بغداد إلى أنّه صفة ثبوتیّة زائدة على الوجود، إذ الوجود متحقّق دونه کما فی أوّل الحدوث، بل یتجدّد بعده صفة هی البقاء، و نفى کون البقاء صفة موجودة زائدة کثیر من الأشاعرة کالقاضی ابى بکر (1) و امام الحرمین (2) و الامام الرازی (2) و جمهور معتزلة البصرة، و قالوا البقاء هو نفس الوجود فی الزّمان الثّانی لا أمر زائد علیه، و نحن ندفع ما أورده هذا الرّجل على مذهب الشّیخ الأشعری، فنقول
أورد علیه ثلاث إیرادات، الأوّل: أنّ البقاء إن عنى به الاستمرار لزم اتّصاف العدم بالصّفة الثبوتیّة إلى آخر الدّلیل، و الجواب: أنّ البقاء عنى به استمرار الوجود لا الاستمرار المطلق حتى یلزم اتّصاف العدم بالصّفة الثبوتیّة فاندفع ما قال. الثانی أنّ وجود الجوهر فی الزّمان الثّانی لو احتاج إلى البقاء لزم الدّور، ثمّ ذکر أن الأشاعرة أجابوا بمنع احتیاج البقاء إلى الجوهر، و رتّب علیه أنّه حینئذ جاز أن یقوم بذاته لا فی محلّ، و هذا الجواب افتراء علیهم، بل أجابوا بمنع احتیّاج الذّات إلیه، و ما قیل إنّ وجوده فی الزّمن الثّانی معلّل به ممنوع، غایة ما فی الباب أنّ وجوده فیه لا یکون إلا مع البقاء و ذلک لا یوجب أن یکون البقاء علّة لوجوده فیه، إذ یجوز أن یکون تحقّقهما معا على سبیل الاتّفاق، فاندفع کلّ ما ذکر من المحذور. الثالث: أنّ وجود الجوهر فی الزّمان الثّانی هو عین وجوده فی الزّمان الأوّل و لمّا کان وجوده فی الزّمان الأوّل غنیّا کان فی الثّانی کذلک، و الجواب: أنّ جمیع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء فی الزّمان الثّانی غنیّ عنه فی الزّمان الأوّل فلا تختلف أفراد الطبیعة (3) فی الاحتیاج و الغنى الذّاتیین و هو حسب أنّ الوجود فی
الزّمان الأوّل فرد، و فی الزّمان الثّانی فرد آخر، و هذا غایة جهله و عدم تدرّبه (4) فی شیء من المعقولات «انتهى.»
أقول: [القاضى نور اللّه]
المصنّف قدّس سرّه غیر ذاهل عن أنّ البقاء فی الباقی الموجود یراد به استمرار الوجود، لکن غرضه فی هذا الدلیل إثبات عدم القیام فی البقاء و الاستمرار المطلق لیلزم منه عدم القیام فی البقاء الخاصّ الحاصل للموجود الباقی، و قد أشار إلى ما ذکرناه بقوله: الاستمرار کما یتحقّق فی جانب الوجود، کذلک یتحقّق فی جانب العدم، و حاصل الدّلیل أنّ البقاء و الاستمرار المطلق مفهوم واحد یستوی إطلاقه على الموجود و المعدوم، فلو اقتضى القیام بالباقی، لزم أن یکون قائما بالباقی المعدوم أیضا لما ذکرنا، فیلزم اتّصاف المعدوم بأمر ثبوتیّ، و إذا کان هذا محالا تعیّن عدم اقتضائه للقیام بشیء و به تتمّ الحجّة على الأشعری، و لا یفید اختیار الشّقّ الثّالث کما زعمه النّاصب. و أمّا ما ذکره من أنّ الجواب الذی نقله المصنّف عن الأشاعرة فی ردّ الدّلیل الثّانی افتراء علیهم، بل أجابوا بمنع احتیاج البقاء إلى الجوهر «إلخ» فدلیل على قصور باعه و قصر نظره على ظواهر الألفاظ من غیر تمکّنه عن تحصیل حقیقة المعنى، فکلّما وجد مخالفة ما بین العبارتین و لو بالتّفصیل و الإجمال و الإطناب و الإیجاز حکم بمغایرة المعنى، و الحاصل أنّ الجواب الذی ذکره النّاصب مصدّرا بقوله بل أجابوا بمنع احتیاج الذّات إلیه «إلخ» و هو المذکور فی المواقف متحد فی المعنى مع ما ذکره المصنف (قدّس سرّه) فانّ حاصل ما ذکره صاحب المواقف فی مقام السّند من هذا الجواب بقوله: إذ یجوز أن یکون تحققهما معا على سبیل الاتّفاق راجع إلى ما ذکره المصنّف من الجواب یجوز أن یقوم البقاء بذاته لا فی محلّ «إلخ» لظهور أنّ الحکم بتحقّق الذّات
و البقاء معا على سبیل الاتفاق بلا علاقة بینهما حکم بجواز أن یقوم البقاء بذاته لا فی محلّ، فیلزم ما ذکره المصنّف من المحذور لزوما لا مدفع له کما لا یخفى، و ممّا ینبغی أن ینبّه علیه أنّ البقاء قد فسره بعضهم باستمرار الوجود فی الزّمان الثّانی کما مرّ، و فسره آخرون بأنّه صفة تعلّل بها الوجود فی الزّمان الثانی، «و الظاهر» أنّ الدّلیل الثّانی الذی ذکره المصنّف و هو المذکور فی المواقف أیضا إلزامیّ (5) لمن فسّر البقاء بالتّفسیر الثانی مع القول بزیادته، فما فعله صاحب المواقف فی جوابه من منع کون الوجود فی الزّمن الثّانی معلّلا بالبقاء کما ترى و أما ما ذکره فی الجواب عن الدّلیل الثالث فهو واه سخیف جدّا، و لهذا اضطرب بعد ذلک، و کتب فی الحاشیة ما هو أسخف منه. أما ما ذکره فی أصل جرحه فلأنّ کلام المصنّف صریح فی أنّه جعل المحذور لزوم اختلاف حکم فرد واحد من الوجود فی الزّمانین بحسب الغنا و الافتقار، حیث قال: وجود الجوهر فی الزّمان الثّانی عین وجوده فی الزّمان الأوّل فکیف یتأتی للنّاصب أن یقول: إنّ المصنّف حسب أنّ الوجود فی الزّمان الأوّل فرد و فی الزّمان الثّانی فرد آخر و هل هذا الاشتباه إلا دلیل جهله و عدم تمکّنه من فهم معانی العبارات الصّریحة فی مدلولاتها فضلا عن التفطن بدقائق العلوم و معقولاتها. و أما ما ذکره فی الحاشیة من أنّ المقصد من هذا الجواب أنّه لا یلزم من تساوی أفراد الطبیعة فی الاستغناء و الاحتیاج إلیه أنّ لا یکون الوجود فی الزّمان الثّانی محتاجا إلى البقاء و إنّما لزم ذلک منه لو کان الوجود فی الزّمان الثّانی فردا مغایرا للوجود فی الزّمان الأول، إذ حینئذ لما استغنى الوجود فی الزّمان الأوّل عنه، فیجب استغناء الوجود فی الزّمان الثّانی
أیضا عنه، إلا أنّه لا مغایرة بینهما، بل هو عینه کما نصّ علیه هذا الرّجل فی أوّل تقریر هذا الاعتراض، فحینئذ جاز أن یکون کلّ فرد من أفراد الوجود مستغنیا عن البقاء فی الزّمان الأوّل محتاجا إلیه فی الزّمان الثّانی، و لا یلزم التّفاوت فی أفراد طبیعة واحدة استغناء و احتیاجا «انتهى» فأقول: مبناه على أنّ المصنّف أراد أنّه یلزم اختلاف أفراد طبیعة الوجود، (و قد علمت) بما نبّهناک علیه من دلالة صریح کلام المصنّف على إرادة لزوم اختلاف فرد واحد من طبیعة واحدة فی زمانین (أنّ ما فهمه النّاصب) فی هذه الحاشیة أیضا غیر منفهم عن کلام المصنّف أصلا، و إنّما النّاصب الشقی الجاهل قد التزم الردّ على هذا الکتاب تعصّبا من غیر استعداد و استمداد، فمقاصده عنه تفوت، و ینسج علیه أمورا واهیة کنسج العنکبوت، و یأتی بمثل هذا الجواب الواهی الشّنیع، و أنى یدرک الضّالع (6) شأو (7) الضّلیع (8)
1) المراد به القاضی ابو بکر محمد بن الطیب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصری الباقلانی صاحب التصانیف فی علم الکلام، سکن بغداد، سمع ابا بکر القطیعی و أبا محمد بن ماسى، و خرج له ابو الفتح بن ابى الفوارس، روى عنه أبو ذر الهروی، و الحسین بن حاتم، و خلق، له کتب اشهرها، کتاب الإنصاف فیما یجب اعتقاده و لا یجوز الجهل به، توفى یوم السبت فی ذى القعدة لسبع بقین منه سنة 403 و دفن بداره ثم نقل الى مقبرة باب حرب من مقابر بغداد، و ما نقله القاضی الشهید عنه مذکور فی کتاب الإنصاف، فلیراجع، و من طالعه رأى ان الرجل غیر مالک لنفسه فی التحامل و التعصب على المعتزلة، و الامامیة، و الوقیعة فی حقهم، مع ان المسائل العلمیة مضامیر الأفکار و الآراء، لا الشتم و السباب، و زاد الشیخ محمد زاهد الکوثرى فی تعالیقه علیه فی الطنبور نغمات عصمنا اللّه من الزلل فی القول و العمل.
2) قد مرت ترجمته.
3) و علم ان المقصود من هذا الجواب انه یلزم من تساوى افراد الطبیعة فی الاستغناء و الاحتیاج الیه ان لا یکون الوجود فی الزمان الثانی محتاجا الى البقاء، و انما لزم ذلک منه ان لو کان الوجود فی الزمان الثانی فردا مغایرا للوجود فی الزمان الاول إذ حینئذ لما استغنى الوجود فی الزمان الاول عنه فیجب استغناء الوجود فی الزمان الثانی ایضا عنه، الا انه لا مغایرة بینهما بل هو عینه کما نص علیه هذا الرجل فی اول تقریر هذا الاعتراض فح جاز ان یکون کل فرد من افراد الوجود مستغنیا عن البقاء فی الزمان الاول محتاجا الیه فی الزمان الثانی و لا یلزم التفاوت فی افراد طبیعة واحدة استغناء و احتیاجا (من الفضل بن روزبهان).
4) التدرب: التعود و الحذاقة الحاصلة من الممارسة.
5) الدلیل الالزامى عند علماء آداب البحث و المناظرة کما فی کتاب الحدود للجرجانى (ص 71 ط مصر) ما سلم عند الخصم، سواء کان مستدلا عند الخصم أو لا، فهو یقابل الدلیل الإقناعی، و الدلیل الخطابی، فلا تغفل.
6) الضالع: المعوج الخلقة.
7) الشأو: الأمد و الغایة.
8) الضلیع: المستوی الخلقة و هذه الجملة مثل یضرب به فی بیان قصور الناقص عن اللحوق بالتام الکامل فیما همه و أراد و این التراب و رب الأرباب.