قال المصنّف رفع اللّه درجته
المطلب الرابع فی استلزام الأمر و النّهی الإرادة و الکراهة (الکراهیة خ ل) کلّ عاقل یرید من غیره شیئا على سبیل الجزم فانّه یأمره به، و إذا کره الفعل فانّه ینهى عنه، و إنّ الأمر و النّهى دلیلان على الإرادة و الکراهة (الکراهیة خ ل)، و خالفت الأشاعرة جمیع العقلاء فی ذلک، و قالوا: إنّ اللّه تعالى یأمر دائما بما لا یریده بل بما یکرهه و إنّه ینهى عمّا لا یکرهه، بل عمّا یریده، و کلّ عاقل ینسب من یفعل. هذا إلى السّفه و الجهل تعالى اللّه عن ذلک علوا کبیرا.
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: مذهب الأشاعرة أنّ اللّه تعالى مرید لجمیع الکائنات غیر مرید لما لا یکون، فکلّ کائن مراد له، و ما لیس بکائن لیس بمراد له، و مذهب المعتزلة و
من تبعهم من الإمامیّة أنّه تعالى مرید للمأمور به کاره للمعاصی و الکفر، و دلیل الأشاعرة أنّه تعالى خالق الأشیاء کلّها، و خالق الشیء بلا إکراه مرید له بالضّرورة و الصّفة المرجّحه لأحد المقدورین هو الإرادة و لا بدّ منها، فإذن ثبت أنّه مرید لجمیع الکائنات. و أمّا المعتزلة فانّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم و أثبتوا فی الوجود تعدد الخالق (1) یلزمهم نفى الإرادة العامّة (2)، فاللّه تعالى عندهم یرید الطاعات و یکره المعاصی، فیأمر بالطاعات و ینهى عن المعاصی لأنّها لیست من خلقه. و عند الأشاعرة أنّه تعالى یرید الطاعات، و یأمر بها و هذا ظاهر و یرید المعاصی و ینهى عنها، و الأمر غیر الإرادة کما مرّ فی الفصل السّابق و لیس المراد من الإرادة الرّضا و الاستحسان، فقوله: إنّ الأشاعرة یقولون: اللّه تعالى یأمر بما لا یریده أراد به أنّ اللّه تعالى یأمر بإیمان الکافر و لا یریده، فالمحذور الذی بما لا یریده أراد به أنّ تعالى یأمر بإیمان الکافر و لا یریده، فالمحذور الذی ذکره من مخالفة العقلاء ناش من عدم تحقیق معنى الإرادة، فانّ المراد بالارادة هاهنا هو التّقدیر و التّرجیح فی الخلق لا الرّضا و الاستحسان کما هو المتبادر، فذهب إلى اعتبار معنى الإرادة بحسب العرف، و إذا حقّقت معنى الإرادة علمت مراد الأشاعرة، و أنّه لا نسبة للجهل و السّفه إلى اللّه تعالى عن ذلک کما ذکره «انتهى»
أقول: [القاضى نور اللّه]
کونه تعالى خالقا للأشیاء کلّها ممنوع، و الاستناد بقوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ (3) ضعیف، لأنّه عامّ مخصوص بما عدا ذاته تعالى و أفعال عباده، و قد بیّنا فی الفصول السّابقة أنّه تعالى لیس بخالق لأفعال
العباد، و إنّما القدرة و التّمکّن (خ ل التمکین) لهم من اللّه تعالى، و بینّا أنّ الأمر لا ینفکّ عن الإرادة و تکلّمنا (4) على المثال الذی أورده بقوله: إن الرّجل قد یأمر بما لا یریده کالمختبر لعبده هل یطیعه أولا؟، و أما تفسیره (5) للإرادة بالتقدیر فهو من مخترعاته التی ألجأه ضیق الخناق (6) إلى التزامها إذ لو لم یکن ذلک معناه بحسب العرف کما اعترف به و ظاهر أنّه لیس ذلک معنى لغویّا أیضا و لو مجازا مشهورا، کما یظهر من تتّبع کتب اللّغة، فقد خرج الکلام عن أسلوب أرباب التّحصیل، و لا یبعد أنّه أخذ ذلک ممّا نسبه أصحابه إلى النّعمانیّة أصحاب محمّد بن
نعمان (7) أبی جعفر الأحول الشّیعی الذی لقبّه الشیعة بمؤمن الطاق، و أهل السنّة بشیطان الطاق، و قد ذکرنا شرح فضائله و براءته عمّا نسب إلیه من الأقوال الفاسدة مع وجه تلقّبه بما ذکر فی کتابنا الموسوم بمجالس المؤمنین، و الحاصل أن محمّد بن عبد الکریم الشّهرستانی الشّافعی الأشعری قد قال فی کتاب الملل و النّحل عند ذکر النّعمان المذکور: إنّه وافق هشام بن الحکم (8) فی أن اللّه تعالى لا یعلم شیئا حتّى یکون، و التّقدیر عنده إرادة فعله تعالى «إلخ»، فقد دخل النّاصب فی هذه المسألة فی فرقة شاذّة مجهولة من الشّیعة قد أنکرهم الإمامیّة أیضا «إلخ» و لعمری إنّه لو اطلع أهل ما وراء النّهر الذین ألف هذا الکتاب تألیفا لقلوبهم لرموه بالرّفض و السّخافة، و لراموا قتله مع إحراقه، ثم مع هذه المفسدة العظیمة یوجب
القول بذلک جعل النّزاع المستمر بین الطائفتین قریبا من سبعمائة سنة لفظیّا، ضرورة أنّ اهل (9) العدل حینئذ لا ینازعون فی أنّ الشرور و القبائح الموجودة من الکفر و الفسق و أمثالهما مرادة للّه تعالى، بمعنى أنّها مقدرة بالتّقدیر المفسّر عندهم بالإعلام و التّبیین و نحوهما و کفاک فی تصدیق ما ذکرنا فی أفعاله تعالى دون أفعال العباد من اختراعه و افترائه بذلک التّفسیر على أصحابه: أنّ کتاب المواقف مع بسطه و تلخیص مقالات المتقدمین فیه خال فی هذا المبحث و فی مبحث إرادة اللّه تعالى لجمیع الکائنات عن تفسیر الإرادة بهذا المعنى، و إنّما فسر الإرادة بالصّفة المخصّصة، و یدلّ علیه استدلاله فی بحث إرادة اللّه تعالى للکائنات بقوله: لنا أما أنّه مرید للکائنات بأسرها. فلأنّه خالق للأشیاء کلّها، و خالق الشیء بلا إکراه مرید له ضرورة، و أیضا فالصفة المرجحة لأحد المقدورین هو الإرادة کما مرّ، و لا بدّ منها «إلخ» ثم ذکر أدلة المعتزلة على أنّه تعالى لا یرید الکفر و المعاصی، و لم یجب فی شیء منها بأنّ الإرادة هاهنا بمعنى التّقدیر، و لعلّ النّاصب اشتبه علیه الأمر من کلام مصنّف العقائد النّسفیّة و شارحه، حیث قال المصنّف: و هی أى أفعال العباد کلّها بإرادته، و مشیته و قضیّته و تقدیره، ثمّ قال الشارح: بعد تفسیره للتّقدیر بتحدید کلّ مخلوق بحدّه «إلخ»: و المقصود تعمیم إرادة اللّه تعالى و قدرته لما مرّ من أنّ الکلّ بخلق اللّه تعالى، و هو یستدعی القدرة و الإرادة «انتهى»، و عرضه من ذلک أنّ مقصود المصنّف صاحب العقائد من قوله سابقا: و هی أى أفعال العباد کلّهم بإرادته و مشیّته «إلخ» تعمیم إرادته و قدرته بالنّسبة إلى جمیع الکائنات و النّاصب فهم منه أنّ المراد أنّ مقصود (10) الشّارح نفسه أو مقصود المصنّف
تعمیم معنى إرادة اللّه تعالى و قدرته عن معنى القضاء و القدر المعطوفین على الإرادة فی کلام المصنّف، و هذا دلیل على جهله و عجزه عن حلّ العبارات، و بالجملة تفسیره للإرادة بالتّقدیر (11) خلاف المقدّر المقرّر بین القوم، و مع هذا لا یسمن و لا یغنی من جوع (12) کما عرفت. و إذا أتقنت (خ ل تیقنت) ذلک علمت أنّ ما ذکره المصنّف و أراد لا محیص لهم عنه بما ذکره النّاصب و الحمد للّه.
1) اى بالنسبة الى الأفعال، فاللام عوض عن المضاف الیه اى خالق الفعل أو عهدی بقرینة المقام.
2) اى العامة للطاعات و المعاصی.
3) الانعام. الآیة 102.
4) عند البحث عن صفة الکلام. منه «قده».
5) و قد وجدت بعد الفراغ من هذا التألیف فی تفسیر فخر الدین الرازی عند تفسیر قوله تعالى: بَدِیعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما یَقُولُ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ ما یحتمل أن یکون منشئا لتوهم الناصب فی ذلک حیث قال: ان قیل ما معنى القضاء؟قلنا: فیه وجوه أحدها کذا و ثانیها کذا و ثالثها القدر و هو یقال مع القضاء فیقال: قضاء اللّه و قدره، و القضاء ما فی العلم، و القدر ما فی الإرادة بقوله تعالى: کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، اى بقدرة مع الإرادة، لا على ما یقولون: انه موجب ردا على المشرکین ثم قال تعالى: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ کَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، اى الا کلمة واحدة و هو قوله:کن، هذا هو الظاهر المشهور، فعلى هذا فاللّه إذا أراد شیئا قال له کن فیکون، فهناک شیئان: الإرادة و القول، فالارادة قدر، و القول قضاء «انتهى» و لا یخفى أن کلام الرازی هاهنا محمول على المسامحة و الا لم ینتظم أول کلامه مع آخره، لأنه قال أولا: ان القضاء ما فی العلم و القدر ما فی الإرادة فافهم. منه قدس سره.
6) الخناق بکسر الخاء المعجمة: ما یخنق به العنق کالحبل و نحوه، و شاع استعمال لفظة ضیق الخناق فی مقام الاشارة الى تعسر الشیء و صعوبته بحیث ألجأ الشخص الى التشبث بکل حشیش.
7) هو أبو جعفر محمد بن النعمان البجلی الکوفی الأحول من أصحاب مولانا الصادق علیه السلام، کان متکلما حاذقا حاضر الجواب أدیبا شاعرا، و کان الصادق علیه السلام یحبه کثیرا، و له کتب، منها کتاب افعل و لا تفعل، کتاب الرد على المعتزلة فی امامة المفضول، کتاب الرد على أبى حنیفة، کتاب الاحتجاج فی امامة على علیه السلام، و کان له حانوت تحت طاق المحامل بالکوفة، و من ثم اشتهر بمؤمن الطاق، و بشاه الطاق، و المخالفون من العامة یلقبونه بشیطان الطاق لکثرة محاجته معهم و غلبته علیهم.
8) هو أبو محمد هشام بن الحکم الکندی ثم البغدادی، النظار المتکلم الجدلی البحاثة، ولد بالکوفة، ثم انتقل الى بغداد فی آخر عمره سنة 199 و قیل: انه توفى فی تلک السنة، روى عن أبى عبد اللّه، و أبى الحسن علیهما السلام، و المترجم من أجلة أصحابهما و ممن فتق الکلام فی الامامة و هذب، و ما یتراءى فی عدة من الروایات من ذمه، فلا اعتداد به لضعف سندها و اشتمالها على عدة من المخالفین المبغضین، حیث وضعوها لنفیر قلوب عوام الشیعة و ضعفائهم عن المترجم، و لو سلمت صحة أسانیدها لکانت محمولة على ضرب من التقیة حقنا لدمه کما ورد نظیر ذلک فی حق زرارة بن أعین.
9) ؟؟؟ القائلون بعدالته تعالى من فرق المسلمین کالامامیة و المعتزلة و الزیدیة و غیرهم سوى الاشاعرة النافین لها کما سبق و یأتى.
10) الظاهر ان حق العبارة هکذا: و الناصب فهم منه ان مقصود الشارح نفسه أو مقصود المصنف تعمیم «إلخ».
11) و من رجع الى رسالة الحدود لابن سینا، و کتاب الحدود للجرجانى، و لسان الخواص للفاضل القزوینی، و کلیات أبى البقاء، و کتب المتکلمین فی مسألة الإرادة، تیقن أن الحق الحقیق بالقبول ما ذکره القاضی الشهید «قده». نعم ذکر بعضهم فروقا بین المشیة و الإرادة و لعلنا نتعرض لها فی محل مناسب لذلک بحوله تعالى و قوته.
12) اقتباس من قوله تعالى فی سورة الغاشیة. الآیة 7.