قال المصنّف رفع اللّه درجته
البحث الخامس فی أنّ الوجود لیس علة تامّة فی الرّؤیة. خالفت الأشاعرة کافّة العقلاء هاهنا، و حکموا بنقیض المعلوم بالضّرورة، فقالوا: إنّ الوجود علّة تامّة فی کون الشّیء مرئیّا، فجوّزوا رؤیة کلّ شیء موجود (1)، سواء کان فی حیّز أولا و سواء کان مقابلا أولا، فجوّزوا إدراک الکیفیّات النّفسانیّة کالعلم و الإرادة و القدرة و الشّهوة و اللّذة، و غیر النّفسانیة ممّا لا یناله البصر، کالرّوائح و الطعوم و الأصوات و الحرارة و البرودة و غیرها (غیرهما خ ل) من الکیفیّات الملموسة، و لا شک فی أن هذا مکابرة للضّروریّات، فإنّ کل عاقل یحکم بأنّ الطعم إنّما یدرک
بالذّوق لا بالبصر، و الرّوائح إنّما تدرک بالشّم لا بالبصر، و الحرارة و غیرها من الکیفیّات الملموسة إنّما تدرک باللّمس لا بالبصر، و الصّوت إنما یدرک بالسّمع لا بالبصر و لهذا (2) فإنّ فاقد البصر یدرک هذه الأعراض، و لو کانت مدرکة بالبصر لاختل الإدراک باختلاله. و بالجملة فالعلم بهذا الحکم لا یقبل التّشکیک و أنّ من شکّک فیه فهو سوفسطائی (3)، و من أعجب الأشیاء تجویزهم عدم رؤیة الجبل الشّاهق فی الهواء مع عدم السّاتر بیننا، و ثبوت رؤیة هذه الأعراض التی لا تشاهد و لا تدرک بالبصر، و هل هذا إلا من تغفّل قائله؟ «انتهى»
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: اعلم أنّ الشّیخ أبا الحسن الأشعری (4) استدلّ بالوجود على
إثبات جواز رؤیة اللّه تعالى و تقریر الدّلیل کما ذکر فی المواقف و شرحه: (5) أنّا
نرى الأعراض کالألوان و الاضواء و غیرها من الحرکة و السّکون و الاجتماع
و الإفتراق، و هذا ظاهر، و نرى الجوهر أیضا، لأنّا نرى الطول و العرض فی الجسم و لیس الطول و العرض عرضین قائمین بالجسم لما تقرّر: من أنّه مرکّب من الجواهر الفردة، فالطول مثلا إن قام بجزء واحد فذلک الجزء یکون أکثر حجما من جزء آخر فیقبل القسمة، هذا خلف، و إن قام بأکثر من جزء واحد لزم قیام العرض الواحد بمحلّین، و هو محال، فرؤیة الطول و العرض هی رؤیة الجواهر التی ترکّب منها الجسم، فقد ثبت أنّ صحّة الرؤیة مشترکة بین الجوهر و العرض، و هذه الصّحة لها علّة مختصّة بحال وجودهما، و ذلک لتحقّقها عند الوجود و انتفائها عند العدم، و لو لا تحقّق أمر مصحّح حال الوجود غیر متحقّق حال العدم لکان ذلک ترجیحا بلا مرجّح و هذه العلّة لا بدّ أن تکون مشترکة بین الجوهر و العرض، و إلا لزم تعلیل الأمر الواحد بالعلل المختلفة و هو غیر جائز، ثمّ نقول: هذه العلّة المشترکة إمّا الوجود أو الحدوث إذ لا مشترک بین الجوهر و العرض سواهما، لکنّ الحدوث عدمیّ لا یصلح للعلّیة فإذن العلّة المشترکة، الوجود، فإنّه مشترک بینهما و بین الواجب، فعلّة صحّة الرّؤیة متحققة فی حق اللّه تعالى فیتحقّق صحّة الرّؤیة و هو المطلوب. ثمّ إنّ هذا الدّلیل یوجب أن تصحّ رؤیة کلّ موجود کالأصوات و الرّوائح و الملموسات و الطعوم کما ذکره هذا الرّجل، و الشّیخ الأشعری یلتزم هذا و یقول: لا یلزم من صحّة الرّؤیة لشیء تحقّق الرّؤیة له، و أنّا لا نرى هذه الأشیاء التی ذکرناها بجری العادة من اللّه بذلک أى بعدم رؤیتها، فإنّ اللّه تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤیتها فیها و لا یمتنع أن یخلق اللّه فینا رؤیتها، کما خلق رؤیة غیرها، و الخصوم یشدّدون علیه الإنکار و یقولون: هذه مکابرة محضة و خروج عن حیّز العقل بالکلیّة، و نحن نقول: لیس هذا الإنکار إلا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد فی الرّؤیة، و الحقائق و الأحکام الثّابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ من العادات بل ممّا تحکم به العقول الخالصة من الأهواء و شوائب التّقلیدات. ثم من الواجب
فی هذا المقام أن نذکر حقیقة الرّؤیة حتّى یبعد الاستبعاد عن الطبائع السّلیمة، فنقول: إذا نظرنا إلى الشّمس فرأیناها، ثم غمضنا العین فعند التّغمیض نعلم الشّمس علما جلیّا، و هذه الحالة مغایرة للحالة الاولى التی هی الرّؤیة بالضّرورة، و هذه الحالة المغایرة الزّائدة لیست هی تأثر الحاسّة فقط، کما حقّق فی موضعه، بل هی حالة أخرى یخلقها اللّه تعالى فی العبد شبیهة بالبصیرة فی إدراک المعقولات، و کما أنّ البصیرة فی الإنسان تدرک الأشیاء و محلّها القلب، کذلک البصر یدرک الأشیاء و محلّها الحدقة فی الإنسان، و یجوز عقلا أن تکون تلک الحالة تدرک الأشیاء من غیر شرط و محلّ و إن کان یستحیل أن تدرک الأشیاء إلا بالمقابلة و باقی الشّروط عادة، فالتّجویز عقلیّ و الاستحالة عادیّة، کما ذکرنا مرارا فأین الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟ و مآل هذا یرجع إلى کلام واحد قدّمناه «انتهى»
أقول: [القاضى نور اللّه]
لا یخفى أنّ جمیع ما ذکره من التّوجیه و التّعلیل الذی سمّاه بالبرهان و الدّلیل تشکیک فی البدیهی، کما ذکره المصنّف، فلا یلتفت إلیه کما فی سائر البدیهیّات على ما مرّ ثم انّ الدّلیل الذی نسبه إلى شیخه الأشعری، قد بلغ من الاختلال و الفساد إلى غایة لا یلیق أن یسمّى بالشّبهة، و فیه سوى ما ذکر من النّقض مفاسد أخرى مذکورة فی کتب الأصحاب و غیرهم، حتّى أنّ فخر الدّین الرّازی أورد علیه فی کتاب الأربعین عدّة من الأسؤلة و اعترف بالعجز عن الجواب عنها و سیجیء کلامه بعینه عن قریب إن شاء اللّه تعالى، و أقبح من ذلک التزامه لازم النّقض المذکور الذی لا یلتزمه إلا الأشعری الذی هو بمعزل عن الشّعور، و ما أشبه حال مدافعته مع الخصم الذی أوقعه فی مضیق الإلزام بالالتزام بحال رجلین تضاربا و کان أحدهما أقوى فی القدرة من الآخر فیطرحه، فیدوس صدره حتّى ینقطع نفسه، ثمّ لمّا سئل بالفارسیّة عن ذلک العاجز الذی لم یکن یعترف من غایة الجهل و العصبیّة بعجزه:، چگونه بود ماجراى تو با فلان؟، قال فی الجواب: او لگد
بر سینه من میزد و من نفس میزدم، فلیضحک قلیلا و لیبک کثیرا (6) و أما ما ذکره فی دفع الاستبعاد، فقد مرّ فیه الکلام مکرّرا ثم ما ذکره من التّحقیق المشهور لا یقتضی أنّ الرّؤیة لیست بالإبصار حتّى یدفع استبعاد ما جوّزه الأشاعرة: من عدم رؤیة المرئیّ مع شرائطها، بل هو إنما ذکر لتحقیق محلّ النّزاع، و أنّه لا نزاع لنا فی جواز الانکشاف التّام العلمی، و لا للمثبتین فی امتناع ارتسام الصّورة من المرئیّ فی العین، أو اتصال الشّعاع فی الخارج من العین بالمرئیّ، و انما محل النّزاع (أنّا إذا رأینا الشمس إلخ) و هو مذکور فی شرح المواقف و الشّرح الجدید (7) للتّجرید، فلا فائدة فی ذکر ذلک إلا تکثیر السّواد، و تضییع المداد کما لا یخفى على من أمعن النظر و أجاد.
1) لا یخفى أن الإمکان الذاتی المصحح للقدرة العامة أمر لا یجزم العقل بانتفائه، بل ربما یحققه، فلا إشکال أصلا فی تجویز شیء مما هو خلاف العادة.
2) قوله: و لهذا فان فاقد البصر إلخ انما یتجه إذا کان مذهب الاشاعرة ادراک هذه الاعراض بالبصر فقط، و لیس فلیس کما لا یخفى، و هکذا قوله: و لو کانت مدرکة بالبصر لاختل الإدراک. من الفضل بن روزبهان.
3) هذه العبارة مشعرة بما ذکره السید «قده» فی شرح المواقف من أن السوفسطائیة لیس لهم نحلة فافهم. منه «قده».
4) هو الشیخ أبو الحسن على بن اسماعیل الأشعری قدوة الاشاعرة و مؤسس تلک الفرقة؛ ینتهى نسبه الى أبى موسى الأشعری المشهور و من ثم اشتهر بالاشعرى، کان من تلامیذ أبى على الجبائی المعتزلی و للأشعری تآلیف منها الابانة فی اصول الدیانة و اللمع و الموجز، توفى ببغداد سنة 324 او 329 او 330 و قیل غیرها و الرجل ممن اتى بالغرائب فی الإسلام، فجوز الرؤیة و الظلم فی حقه تعالى و أنکر الحسن و القبح العقلیین و نحوها مما ستقف علیها فی الکتاب و فی تعالیقنا.
5) لا یخفى على الناقد البصیر أن بناء الدلیل المذکور، کما ذکره فی شرح المواقف عند التعرض لهذا الدلیل، (ج 2 ص 371) على ترکب الجسم من الجواهر الفردة و أن الطول و العرض عین الجسم و لیسا أمرین عرضیین عرضا علیه فان الطول و العرض ان کانا عرضین قائمین بواحد من تلک الجواهر الى آخر ما نقله الناصب أقول ترکب الجسم من الجواهر الفردة هو قول ذیمقراطیس و هو قول مزیف ضعیف غایة الضعف، و الذی ذهب الیه أهل التحقیق منع انقسام الجسم الى أجزاء بالفعل و ذکروا أن انقسام الجسم الى الاجزاء انما هو بالقوة لا بالفعل، فانه لو اشتمل الجسم على أجزاء بالفعل للزم وقوع الاجزاء الغیر المتناهیة بین حاصرین، فان کل جزء منها أیضا ینقسم الى أجزاء بالفعل حسب الفرض و کل جزء منها أیضا ینقسم الى أجزاء و هکذا، فیلزم اشتمال کل جسم على أجزاء غیر متناهیة بالفعل و هو محال فانهدم بناء القول بکون الطول و العرض عین الجسم و اندفع ما توهمه الأشعری محذورا لکون الطول و العرض من قبیل الاعراض فثبت أن التحقیق کما علیه قاطبة أهل التحقیق أن الطول و العرض من قبیل العرض من مقولة الکم و لیسا جوهرین، حتى یلزم من صحة رؤیتهما صحة رؤیة الجواهر.ثم انه على تقدیر تسلیم ما توهمه الأشعری من کون الطول و العرض جوهرا یرد على استدلاله به على جواز رؤیة مطلق الوجود الشامل لوجود الباری عز اسمه، أن بین وجود الجوهر و وجود العرض جامع لا یشتمل وجود الباری جلت عظمته، و هو الوجود الامکانى الذی هو مرتبة من مراتب الوجود لا یشمل ما فوقها من المرتبة، فلا تکون صحة رؤیة وجود الجوهر و وجود العرض الا مستلزما لصحة رؤیة المرتبة الجامعة بینهما من الوجود دون مطلق الوجود هذا و قد ذکر فخر الدین الرازی فی الأربعین (ص 198- 191) اثنى عشر وجها فی الاعتراض على الدلیل المذکور و نحن نذکر خلاصتها، و قد اعترف بالعجز عن جوابها بعین العبارة التی سیذکرها القاضی الشهید «قده» (أولها) أن الصحة امر عدمی على ما تقرر فی محله و الأمر العدمی لا یفتقر الى العلة (ثانیها) أنه على تقدیر کون الصحة امرا وجودیا لا یجب تعلیله، لما اتفق المتکلمون على أن من الاحکام ما لا یعلل کما أن صحة المعلومیة و المذکوریة و المخبریة لا تعلل لان هذه الاحکام ثابتة للمعدومات أیضا و هی لا تصلح للتعلیل (ثالثها) أن صحة رؤیة الجوهر مخالفة لصحة رؤیة العرض فانه یمتنع قیام کل واحدة منهما مقام الآخر بدلیل أن الجوهر یمتنع أن یرى سوادا و السواد یمتنع أن یرى جوهرا، و اختلافهما فی النوع و لو مع اشتراک الجنس یوجب جواز تعلیلهما بعلتین مختلفتین (رابعها) سلمنا أن صحة رؤیة الجوهر و صحة رؤیة العرض حکمان متماثلان و لکن یجوز تعلیل المتماثلین بعلتین مختلفتین لوجوه تقرر فی محله (خامسها) أن قولکم: لا مشترک بین الجوهر و العرض الا الوجود و الحدوث لا نسلمه و عدم الدلیل لیس دلیل العدم (سادسها) أن قولکم: ان الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم فهو مرکب من الوجود و العدم باطل فان المسبوقیة وصف ثبوتى ثابت للوجود و الوجود لا یتصف بالعدم لاستحالة اتصاف الشیء بنقیضه (سابعها) أن حقیقة الشیء عند أبى الحسن الأشعری هو وجوده و لما کانت الحقائق مختلفة فوجود الواجب مختلف لا محالة مع وجود الممکنات (ثامنها) أن حصول العلة غیر کافیة فی حصول المعلول، فانه قد تحصل العلة و لا یحصل المعلول لعدم حصول شرطه او اقترانه بالمانع، کما أن الحیاة علة لحصول الشهوة و الألم و اللذة و غیر حاصلة فی حقه تعالى مع أن الحیاة ثابتة له (تاسعها) أن لازم القول: بصحة الرؤیة القول: بصحة اللمس و الذوق بعین ما ذکرتم فی ذلک و هو مما لا تلتزمونه. (عاشرها) أن قولکم: الوجود علة لصحة الرؤیة ان أردتم به صحة رؤیة الوجود، ففیه أن لازمه تعلق الرؤیة فی کل مبصر بالوجود المشترک بین جمیع الموجودات و عدم تعلقه بالخصوصیات الخارجة عما به الاشتراک.(الحادی عشر) أنه یمکن الالتزام بصحة الرؤیة فی حقه تعالى و لا ینافی ذلک توقفها على شرط ممتنع، فیمتنع تحقق الرؤیة لأجل امتناع الشرط. (الثانی عشر) النقض بالمخلوقیة فإنها أمر مشترک بین الجواهر و الاعراض و لا یجوز حصولها فی حقه تعالى.
6) اقتباس من قوله تعالى فی سورة التوبة. الآیة 82: فَلْیَضْحَکُوا قَلِیلًا وَ لْیَبْکُوا کَثِیراً.
7) المراد به شرح المولى على القوشچى المتوفى سنة 879 و له تصانیف کثیرة کالهیئة الفارسیة و غیرها.