قال المصنف رفع اللّه درجته
البحث الثالث فی وجوب الرّؤیة عند حصول هذه الشّرائط. أجمع العقلاء کافة عدا الأشاعرة على ذلک للضرورة القاضیة به، فإنّ عاقلا من العقلا لا یشکّ فی حصول الرّؤیة عند استجماع شرائطها و خالفت الأشاعرة جمیع العقلاء فی ذلک و ارتکبوا السّفسطة فیه، و جوّزوا أن یکون بین أیدینا و بحضرتنا جبال شاهقة من الأرض إلى عنان (1) السّماء محیطة بنا من جمیع الجوانب، ملاصقة لنا تملأ
الأرض شرقا و غربا بألوان مشرقة مضیئة ظاهرة غایة الظهور، و تقع علیها الشّمس وقت الظهیرة، و لا نشاهدها و لا نبصرها و لا شیئا منها البتّة. و کذا تکون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض بحیث ینزعج منها کلّ أحد یسمعها أشدّ ما یکون من الأصوات، و حواسّنا سلیمة (غیر مستقیمة) و لا حجاب بیننا و بینها و لا بعد البتّة، بل هی فی غایة القرب منّا و لا نسمعها و لا نحسّها أصلا، و کذا إذا لمس أحد بباطن کفّه حدیدة محماة بالنّار حتى یقبض (ینقبض ظ) و لا یحسّ بحرارتها، بل یرمى فی تنور اذیب فیه الرّصاص أو الزّیت، و هو لا یشاهد التّنور و لا الرّصاص المذاب، و لا یدرک حرارته، و تنفصل أعضائه، و هو لا یحسّ بالألم فی جسمه، و لا شکّ أنّ هذا هو عین السفسطة. و الضرورة تقضی بفساده، و من یشکّ فی هذا فقد
أنکر أظهر المحسوسات «انتهى کلامه».
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: مذهب الأشاعرة أنّ شرائط الرّؤیة إذا تحقّقت لم تجب الرّؤیة، و معنى نفى هذا الوجوب: إنّ اللّه تعالى قادر على أن یمنع البصر من الرّؤیة مع وجود الشّرائط و إن کانت العادة جاریة على تحقّق الرّؤیة عند تحقق الأمور المذکورة، و من أنکر هذا و أحاله عقلا فقد أنکر خوارق العادات و معجزات الأنبیاء، فإنّه ممّا اتّفق على روایته و نقله أصحاب جمیع المذاهب من الأشاعرة و المعتزلة و الإمامیّة:
أن النبّی صلى اللّه علیه و اله لمّا خرج لیلة الهجرة من داره، و قریش قد حفّوا بالدار، یریدون قتله، فمرّ بهم و رمى على وجوههم بالتّراب، و کان یقرأ سورة یس، و خرج و لم یره أحد، و کانوا جالسین غیر نائمین و لا غافلین
، فمن لا یسلّم أنّ عدم حصول الرؤیة جائز مع وجود الشّرائط بأن یمنع اللّه تعالى البصر بقدرته عن الرّؤیة، فعلیه أن ینکر هذا و أمثاله، و من الأشاعرة من یمنع وجوب الرّؤیة عند استجماع الشّرائط: بأنّا نرى الجسم الکبیر من البعید صغیرا، و ما ذلک إلا لأنّا نرى بعض أجزائه دون البعض مع تساوی الکلّ فی حصول الشرائط، فظهر أنّه لا تجب الرّؤیة عند اجتماع الشرائط. و التحقیق ما قدّمناه من أنّهم یریدون من عدم الوجوب جواز عدم الرّؤیة عقلا و إمکان تعلّق القدرة به، فأین إنکار المحسوسات؟ و أین هو من السّفسطة؟ ثم ما ذکر: من تجویز أن تکون (2)
بحضرتنا جبال شاهقة مع ما وصفها من المبالغات و التقعقعات (3) الشّنیعة و الکلمات الهائلة المرعدة المبرقة التی تمیل بها خواطر القلندریّة، و العوام إلى مذهبه الباطل و رأیه الکاسد الفاسد، فهو شیء لیس بقول و لا مذهب لأحد من الأشاعرة، بل یورد الخصم علیهم فی الاعتراض، و یقول: إذا اجتمعت شرائط الرّؤیة فی زمان وجب حصول الرّؤیة، و إلا جاز أن تکون بحضرتنا جبال شاهقة (4) و نحن لا نراها، هذا هو الاعتراض. و أجاب الأشاعرة عنه بأن هذا منقوض بجملة العادیّات، فإنّ الأمور العادیة یجوز نقائضها (5) مع جزمنا بعدم وقوعها و لا سفسطة هاهنا، فکذا الحال فی الجبال الشّاهقة التی لا نراها، فانّا نجوّز وجودها و نجزم بعدمها، و ذلک لأنّ الجواز (6) لا یستلزم الوقوع، و لا ینافی الجزم بعدمه، فمجرّد تجویزها
لا یکون سفسطة (7) و حاصل کلام الأشاعرة کما أشرنا إلیه سابقا: أنّ الرّؤیة لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط، و یجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع کونه محالا عادة، و الخصوم لا یفرقون بین المحال العقلی و العادی، و جملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق. ثمّ ما ذکر من الأضواء و توصیفها و المبالغات فیها فکلّها من قعقعة الشّنآن بعد ما قدّمنا لک البیان «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
ما ذکره لإصلاح سفسطة الأشاعرة فی هذه المسألة من وقوع خرق العادة فی معجزات الأنبیاء سیّما ما اتّفقوا علیه من معجزة نبیّنا صلى اللّه علیه و اله لیلة الهجرة بمروره على الکفّار من غیر أن یراه أحد منهم لا یصلح لما قصده من الإصلاح.
مصراع: و هل یصلح العطار ما أفسد الدّهر (8) و ذلک لأنّه لا یلزم أن یکون خرق العادة فی المعجزة المذکورة بعدم الرّؤیة مع وجود الشّرائط، و لم لا یجوز أن یکون بإحداث حائل من غشاوة غیم أو دخان أو غبار (9) دفعة، کما أشار إلیه الباری سبحانه فی سورة البقرة بقوله:
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (10) و بقوله فی سورة یس: وَ جَعَلْنا مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَیْناهُمْ فَهُمْ لا یُبْصِرُونَ(11) و معنى فأغشیناهم: جعلنا على أبصارهم غشاوة و حلنا بینهم و بینه، کذا فی أکثر
التّفاسیر. و أما ما تکأکأ به (12) من بناء الأشاعرة ذلک على قاعدة جریان العادة، و أنّ حاصل کلامهم هو أنّ الرّؤیة لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط «إلخ» فمع ما سبق من الکلام على هذه القاعدة المیشومة، مردود: بأنّ عند تحقّق الشّرائط و اجتماعها تکون العلّة التّامة للرّؤیة متحقّقة ضرورة، فلو أمکن معها عدم الرّؤیة لزم إمکان تخلّف المعلول عن العلّة التّامة (13)، و هذا خلف. فظهر أنّ منشأ غلط الأشاعرة عدم الفرق بین ما نحن فیه من المحال (14) العقلی و المحال العادی، و أنّ النّاصب المقلّد جرت عادته باعادة کلامهم، فإن التّخلّف العادی فیما نحن فیه من الرّؤیة و أسبابها و شرائطها إنّما یتصوّر: بأن یعدم القادر المختار جمیع أجزاء علّتها التّامّة أو بعضها، و یوجد بدلها معلولا آخر مثلا، کما قیل فی انقلاب الحجر ذهبا و نحوه، لا أن یوجد ذلک المعلول أعنی الرّؤیة بعینه بدون علّته التّامة و أما نفیهم للعلّیة و المعلولیّة الحقیقیّة بین الحوادث فهو سفسطة أخرى، أولى بالتّشنیع و أحرى فافهم. و اما ما ذکره النّاصب فی حاشیة جرحه هذا: من أنّه إن أرید من تجویز أن یکون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها، الحکم بإمکانها الذاتی فهذا عین مذهب الأشاعرة، و لیس یظهر فیه فساد أصلا، و لا سفسطة فیه قطعا؛ و إن أرید عدم الیقین بانتفائها و عدم إباء العقل من تحقّقها فهو ممنوع، إذ عند الرّجوع
إلى الوجد ان نعلم تحقّق العلم العادی بانتفائها، و لا ینافیه الإمکان الذّاتی «انتهى» فمردود: بأنّ المراد بالجواز هو الحکم بإمکان عدم تحقّق الرّؤیة عند شرائطها التی هو نقیض ضرورة حکم العقل بأنّها واقعة عند شرائطها، فلا یمکن أن یتحقّق مع الحکم بوجوب تحقّق الرّؤیة عند شرائطها و قد قلت بخلافه [هذا خلف] و التّحقیق أنّ مبنى الدّلیل و جوابه على مقدّمة اختلفت فیها الفرقتان، و هی: أنّ المعلول عند تحقّق جمیع ما یتوقف علیه بحسب العادة هل یجب تحقّقه أم لا؟ فمن قال:
باستناد الأفعال إلیه تعالى، و هم الأشاعرة قال: بأنّه غیر واجب (15) إلا أنّ عادته جاریة بإیجاده عند تحقّق ما یتوقف علیه، و من قال: باستناد بعض الأفعال إلى غیره تعالى، و هم الإمامیّة و المعتزلة و الحکماء، قال: بوجوبه، و هو الموافق للعقل، و البدیهة حاکمة به کما لا یخفى.
1) لعنان السماء إطلاقات فی الهیئة و غیرها منها انه یطلق على أربعة عشر کوکبا، اجتماعها على صورة رجل قائم خلف ممسک رأس الغول، بین الثریا و بین کوکبة الدب الأکبر، و نقل عن بطلیموس ان کواکبه أربعة عشر، و قیل أزید، و یؤیده کلام بعض المتأخرین من الغربیین.قال عبد الرحمن الفلکی الشهیر المتوفى سنة 376 فی کتاب الصور ص 89 ان کواکبه الأربعة عشر هی هذه:الأنور الجنوبی الأنور الشمالی العیوق النیر المنکبى الایمنى اى الذی على منکبه الأیمن المرفقى الایمنى اى الذی على مرفقه الأیمن الکوکب الذی فی خلف مرفقه الأیمن المرفقى الایسرى اى الذی على مرفقه الأیسر المعصمى الایسرى اى الذی على معصمه الأیسر الکوکب الذی یمیل الى الجنوب فی وسط المجرة الکعبی الایسرى اى الکوکب الذی على کعبه الأیسر فی الحافة الغربیة من المجرة کوکب نیر عظیم على کعبه الأیمن ایضا و هو أعظم من الرابع المذکور الواقع على منکبه الأیمن کوکب منیر واقع على اللفافة التی على ساق الرجل الیمنى الکوکب المنیر المائل عن الواقع على اللفافة الى الشمال کوکب واقع تحت الرجل الیسرى.ثم اعلم انه کثیرا ما یقال ممسک الاعنة لصورة الرجل الحاصلة من أربعة عشر کوکبا المذکورة فلا تظنن التعدد.و لیعلم ان ممسک رأس الغول الذی أشرنا الیه قریبا یسمى (برشاوش) أیضا، و المراد منه صورة رجل قائم على رجله الیسرى و قد رفع رجله الیمنى و یده الیمنى فوق رأسه و بیده الیسرى رأس غول، و کواکبها کلها فیما بین الثریا و بین ذات الکرسی، و صورة الممسک حاصلة من ستة و عشرین کوکبا من الصورة و ثلاثة حوالى الصورة و لیست منها.و قد یطلق عنان السماء على وسط نصف الدائرة الموهومة فوق الرأس، إحدى طرفیها متصلة بالمشرق و الأخرى بالمغرب.و قد یطلق على وسط السماء و قد یطلق على مطلق الفوقیة الى غیر ذلک من الاستعمالات و الإطلاقات فی العرف الخاص أو العام.
2) و الجواب على طریق الحل أن یقال: ان أرید بقوله: و إلا جاز، أنه لو لم تجب الرؤیة عند اجتماع شرائطها لأمکن بحسب الذات أن تکون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها، فمسلم و بطلانه ممنوع، و ان أرید أنه لو لم یجب لجاز عند العقل ذلک و لم یأب عنه فممنوع، إذ التجویز العقلی انما یکون عند انتفاء العلم العادی بانتفائها، و هو ممنوع، بل الوجدان یقتضى تحقق هذا العلم العادی المنافى لأن یجوز العقل خلافه. من الفضل بن روزبهان فی هامش بعض النسخ.
3) تقعقع: اضطرب و تحرک و صوت عند التحرک.
4) و التحقیق أنه ان أزید من تجویز أن تکون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها، الحکم بإمکانها الذاتی، فهذا عین مذهب الاشاعرة، و لیس یظهر فیه فساد أصلا، و لا سفسطة فیه قطعا، و ان أرید عدم الیقین بانتفائها و عدم إباء العقل من تحققها فهو ممنوع، إذ عند الرجوع الى الوجدان نعلم تحقق العلم العادی بانتفائها و لا ینافیه الإمکان الذاتی من الفضل بن روزبهان أیضا فی نسخة أخرى.
5) قوله: یجوز نقائضها، اى یحکم بإمکانها الذاتی، لا أن العقل لا یأبى من تحقق نقائضها فی الواقع کیف؟ و العلم العادی لا یحتمل متعلقه النقیض. و قد صرح هاهنا أیضا بجزمنا بعدم وقوعها، و کذا الکلام فی قوله: فانا نجوز وجودها، و قد عرفت تحقیق الکلام فی الحاشیتین. من الفضل بن روزبهان.
6) أى الإمکان الذاتی لا التجویز العقلی، لظهور أن الاول لا ینافی الجزم دون الثانی من الفضل بن روزبهان.
7) أى القول بإمکانها الذاتی على ما عرفت غیر مرة. من الفضل بن روزبهان.
8) ما قبلها:عجوز تمنت ان تکون فتیةو قد یبس الجنبان واحد و دب الظهر.
9) او حاجب معنوی غیر محسوس کما هو المراد بقوله تعالى فی کتابه العزیز: أخذ اللّه بسمعهم و أبصارهم الآیة و کذا نحو المراد من الغشاوة المذکورة فی الآیة.
10) البقرة. الآیة 7.
11) یس. الآیة 9.
12) التکاکؤ: الاجتماع.
13) ان قلت: ان العلة الثابتة للحوادث عند الأشعری، هو الواجب تعالى، لأنه ینفى العلیة و المعلولیة من الحوادث مطلقا کما مر.قلت: هذا أصل السفسطة کما مر بیانه. منه «قده».
14) لفظة محال من المثلثات، فبالفتح عود ینصب على حافة البئر و تعلق به البکرة للاستقاء و بالکسر بمعنى القوة و الشدة کما فی قوله تعالى: وَ هُوَ شَدِیدُ الْمِحالِ و بالضم مقابل الممکن و المحال من مادة الحوالة ایضا.
15) و مما تضحک منها الثکلى و یبکى العریس و یتبسم الطیر المشوى، ما ذکره الامام الرازی فی کتاب المحصل: انه یمکن تحقق العلة بأجزائها بالأسر و ان لا یتحقق المعلول، و ذلک بارادة منه تعالى، و عبر عنه «بالصرف» و عن وجود المعلول بعد العلة: «بالصدفة» و صرح بهذا فی کتاب الأربعین قائلا: ان تحقق المعالیل بعد تحقق العلل من باب الصدفة الغالبة.