قال المصنّف رفع اللّه درجته
المبحث السابع فی أنّه تعالى متکلم (1): و فیه مطالب الاول فی حقیقة الکلام، الکلام عند العقلاء عبارة عن المؤلف من الحروف المسموعة، و أثبت الأشاعرة کلاما آخر نفسانیا مغایرا لهذه الحروف و الأصوات و لتصوّر هذه الحروف و الأصوات، و لإرادة إیجاد هذه الحروف و الأصوات، و هذه الحروف و الأصوات دالة علیه، و هذا غیر معقول فإنّ کلّ عاقل إنّما یفهم من الکلام ما قلنا: فأما ما ذهبوا إلیه فإنّه غیر معقول لهم و لغیرهم البتّة، فکیف یجوز إثباته للّه تعالى و هل هذا إلا جهل عظیم؟ لأنّ الضّرورة قاضیة بسبق التّصوّر على التّصدیق، و إذ قد تمهّدت هذه المقدّمة فنقول: لا شکّ فی أنّه تعالى متکلّم على معنى أنّه أوجد حروفا و أصواتا مسموعة قائمة بالأجسام الجمادیّة، کما کلّم اللّه تعالى موسى من الشّجرة فأوجد فیها الحروف و الأصوات، و الأشاعرة خالفوا عقولهم، و عقول کافّة البشر، فأثبتوا له تعالى کلاما لا یفهمونه هم و لا غیرهم، و إثبات مثل هذا الشّیء و المکابرة علیه، مع أنّه غیر متصوّر البتّة، فضلا عن أن یکون مدلولا علیه، معلوم البطلان و مع ذلک فانّه صادر عنّا أو فینا عندهم و لا نعقله نحن و لا من ادّعى ثبوته «انتهى»
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: مذهب الأشاعرة أنّه تعالى متکلم، و الدّلیل علیه إجماع الأنبیاء
علیهم السّلام علیه، فإنّه تواتر أنّهم کانوا یثبتون له الکلام و یقولون: إنّه تعالى أمر بکذا و نهى عن کذا و أخبر بکذا، و کلّ ذلک من أقسام الکلام فثبت المدّعى، ثمّ إنّ الکلام عندهم لفظ مشترک، تارة یطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة و تارة یطلقونه على المعنى القائم بالنّفس الذی یعبّر عنه بالألفاظ و یقولون: هو الکلام حقیقة و هو قدیم قائم بذاته تعالى، و لا بدّ من إثبات هذا الکلام، فإنّ العرف لا یفهمون من الکلام إلا المؤلف من الحروف و الأصوات، فنقول أوّلا: لیراجع الشّخص إلى نفسه إنّه إذا أراد التّکلم بالکلام فهل یفهم من ذاته أنّه یزوّر (2) و یرتّب معانی (3) فیعزم على التکلّم بها؟ کما أنّ من أراد الدخول على السّلطان أو العالم فانّه یرتّب فی نفسه معانی و أشیاء یقول فی نفسه: سأتکلّم بهذا، فالمنصف یجد من نفسه هذا البتّة، فهذا هو الکلام النّفسانی، ثمّ نقول على طریقة الدّلیل: إنّ الألفاظ التی نتکلّم بها لها مدلولات قائمة بالنّفس، فنقول: هذه المدلولات هی الکلام النّفسانی،. فان قال: الخصم تلک المدلولات هی عبارة عن العلم بتلک المعانی
قلنا: هی غیر العلم لأنّ من جملة الکلام الخبر، و قد یخبر الرّجل عمّا لا یعلمه بل یعلم خلافه أو یشکّ فیه، فالخبر عن الشّیء غیر العلم به، فان قال هو الإرادة، قلنا هو غیر الإرادة لأنّ من جملة الکلام الأمر، و قد یأمر الرّجل بما لا یریده کالمختبر لعبده، أ هو یطیعه أولا فانّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتیان بالمأمور به، و کالمعتذر من ضرب عبده بعصیانه فانّه قد یأمره و هو یرید أن لا یفعل المأمور به لیظهر عذره عند من یلومه، و اعترض علیه بأنّ الموجود فی هاتین الصّورتین صیغة الأمر لا حقیقته، إذ لا طلب فیهما أصلا کما لا إرادة قطعا، و أقول: لا نسلّم عدم الطلب فیهما لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب و هو الطلب، ثمّ إنّ فی الصّورتین لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر، لأنّ اعتذاره و اختباره موقوفان على أمرین: الطلب منه مع عدم الفعل من المأمور و کلاهما لا بدّ من أن یکونا محقّقین لیحصل الاعتذار و الاختبار قال صاحب المواقف هاهنا: و لو قالت المعتزلة: إنّه أى المعنى النّفسی الذی یغایر العبارات (خ ل اعتبارات) فی الخبر و الأمر هو إرادة فعل یصیر سببا لاعتقاد المخاطب علم المتکلم بما أخبر به أو یصیر سببا لاعتقاده إرادته أى إرادة المتکلّم لما أمر به لم یکن بعیدا، لأنّ إرادة فعل کذلک موجودة فی الخبر و الأمر، و مغایرة لما یدلّ علیها من الأمور المتغیرة و المختلفة، و لیس یتّجه علیه أنّ الرّجل قد یخبر بما لا یعلم، أو یأمر بما لا یرید، و حینئذ لا یثبت معنى نفسی یدلّ علیه بالعبارات مغایر للإرادة کما تدّعیه الأشاعرة هذا کلام صاحب المواقف، و أقول: من أخبر بما لا یعلمه، قد یخبر و لا یخطر له إرادة شیء أصلا، بل یصدر عنه الاخبار و هو یدلّ على مدلول، هو الکلام النّفسی من غیر إرادة فی ذلک الإخبار لشیء من الأشیاء، و أمّا فی الأمر و إن کان هذه الإرادة موجودة، و لکن ظاهر أنّه لیس عین الطلب الذی هو مدلول الأمر، بل شیء یلزم ذلک الطلب، فإذن تلک الإرادة مغایرة للمعنى النّفسی الذی هو الطلب فی هذا
الأمر و هو المطلوب، و لمّا ثبت أنّ هاهنا صفة هی غیر الإرادة و العلم فنقول: هو الکلام النّفسانی، فإذن هو متصوّر عند العقل ظاهر لمن راجع وجدانه غایة الظهور فمن ادعى بطلانه و عدم کونه متصوّرا فهو مبطل. و أما من ذهب إلى أنّ کلام اللّه تعالى هو أصوات و حروف یخلقها اللّه تعالى فی غیره کاللّوح المحفوظ أو جبرئیل أو النّبی صلى اللّه علیه و اله و هو حادث، فیتجه علیه أنّ کلّ عاقل یعلم أنّ المتکلّم من قامت به صفة المتکلّم و خالق الکلام لا یقال: إنّه متکلّم، کما أنّ خالق الذّوق لا یقال:
إنّه ذائق و هذا ظاهر البطلان عند من یعرف اللّغة و الصّرف فضلا عن أهل التحقیق نعم، الأصوات و الحروف دالة على کلام اللّه تعالى و یطلق علیها الکلام أیضا، و لکن الکلام فی الحقیقة هو ذلک المعنى النّفسی کما أثبتناه «انتهى.»
أقول: [القاضى نور اللّه]
فیه نظر أما أولا فلأنّ إثبات الاشتراک لا یجدیهم نفعا، لأنّ الکلام یجب أن یکون مرکّبا، سواء کان لفظیّا أو نفسیّا، أما اللّفظی فظاهر و أما النّفسی فلأنّ اللّفظی لما کان موضوعا بإزاء المعنى المطابق لما فی النّفس فلو لم یکن النّفسی مرکبا لم یکن المعنویّ مطابقا له، و أیضا التّرتیب داخل فی مفهوم الکلام، و لا یوجد الکلام بدونه، کما اعترف به الفاضل التفتازانی فی شرح العقائد حیث قال: و هذا أى ما ذکره صاحب المواقف من أنّ الکلام النّفسی غیر مرتّب الأجزاء جیّد لمن یتعقّل لفظا قائما بالنّفس غیر مؤلف من الحروف المنطوقة أو المخیّلة المشروطة وجود بعضها بعدم البعض، و لا من الأشکال المرتبة (خ ل المترتبة) الدّالة علیه، و نحن لا نتعقّل من قیام الکلام بنفس اللافظ إلا کون صور الحروف مخزونة مرتسمة فی خیاله، بحیث إذا التفت إلیها کان کلاما مؤلفا من ألفاظ مخیّلة أو نقوشا مرتّبة، و إذا تلفظ کان کلاما مسموعا «انتهى» و على هذا فما یزوره المتکلّم فی نفسه عند إرادة التکلّم، یجوز أن یکون عبارة عن الألفاظ
المخیّلة المرتّبة فی النّفس، فلا یجدیهم ما تشبّثوا به من قول (4) عمر: زوّرت فی نفسی کلاما بمعنى قدرته و فرضته، کما یقال: زوّرت دارا و بناء، فکما لا یدلّ هذا على کون حقیقة الدّار و البناء فی النّفس، کذلک لا یدلّ ذلک على کون حقیقة الکلام فی النّفس، و کذا کون الکلام فی الفؤاد (5) یکون إشارة إلى تصوّره، و أما ثانیا فلأنّ ما ذکره من أنّه قد یخبر الرّجل عمّا لا یعلمه، بل یعلم خلافه فالخبر عن الشیء غیر العلم به، ففیه ما ذکره الشّارح الجدید للتّجرید حیث قال و لقائل أن یقول: إنّ المعنى النّفسی الذی یدّعون أنّه قائم بنفس المتکلم و مغایر للعلم فی صورة الإخبار عمّا لا یعلمه، هو إدراک مدلول الخبر، أعنی حصوله فی الذّهن مطلقا یقینیا کان أو مشکوکا، فلا یکون مغایرا للعلم، و الحاصل أنّ هذا إنّما یدلّ على مغایرته للعلم الیقینی (6)، لا للعلم المطلق، إذ کلّ عاقل تصدّى للأخبار، تحصل فی ذهنه صورة ما أخبرته بالضّرورة، و أیضا ما ذکره (خ ل هذا) قیاس الغائب على الشّاهد فلا یفید و أما ثالثا فلأن ما ذکره فی بیان مغایرة المعنى
النّفسی للإرادة «مردود» بالاعتراض الذی نقله و أما ما ذکره فی دفع ذلک الاعتراض بقوله: أقول لا نسلّم عدم الطلب فیهما، لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب «إلخ» مدخول، بأنّ الاعتذار و الاختبار إنّما یتوقّفان على أن یصدر من الآمر ما یدلّ بظاهره فی مجاری الاستعمال على الطلب، لا على تحقق الطلب فی نفس الأمر، إذ لا وقوف لغیر اللّه تعالى بما فی الصّدور، فیحصل الاعتذار و الاختبار من غیر قصد الطلب کما لا یخفى و أما رابعا فلأنّ ما ذکره فی جواب ما نقله ثانیا عن صاحب المواقف فی تقویة المعتزلة من قوله: أقول من أخبر بما لا یعلمه قد یخبر و لا یخطر له إرادة شیء أصلا «إلخ» ففیه: أنّ هذا غیر واقع، و لو سلم فیجاب بمثل ما أجبنا عنه عمّا قیل: من أنّه قد یخبر الرّجل عمّا لا یعلمه فاعلم و أما ما ذکره من أن فی الأمر و إن کان هذه الإرادة موجودة، و لکن ظاهر أنّه لیس عین الطلب الذی هو مدلول الأمر، بل شیء یلزم ذلک الطلب، فإذن تلک الإرادة مغایرة للمعنى النّفسی الذی هو الطلب فی هذا الأمر و هو المطلوب، ففیه: أنّا لا نسلّم أنّ الطلب غیر الإرادة (7)، فإن الطلب
عین الإرادة (8) عند المعتزلة، و لو سلّم فنقول: إنّ الکلام النّفسی عند الأشاعرة
قدیم، فلو کان عبارة عن الطلب کما ذکره النّاصب یلزم قدم من یطلب منه الفعل أیضا و إلا یلزم السّفه، إذ الطلب بدون وجود من یطلب منه سفه بالضّرورة، و سیجیء تفصیل الکلام فیه عن قریب إن شاء اللّه تعالى و أما خامسا: فلأنّ ما ذکره من أنّ کلّ عاقل یعلم أنّ المتکلم من قام به صفة التکلم و خالق الکلام لا یقال له إنّه متکلم «إلخ» قد هرب فیه النّاصب عمّا قاله أصحابه قاطبة: من أنّ المتکلّم من قام به الکلام لما أورد علیهم الإمامیّة، من أنّه یلزم من ذلک أن لا یصحّ إطلاق المتکلّم على البشر، إذ الکلام قائم بالصّوت الذی هو عرض لا بالبشر، و حینئذ یتوجّه علیه: إنّ المبدأ الذی هو التکلم المهروب إلیه بمعنى إیجاد الکلام قائم بذاته تعالى حقیقة، فلا یحتاج إلى المعنى النّفسی
الأزلیّ، و أیضا نحن لا نشترط فی صدق المتکلّم أن یکون ذلک الشیء موجدا للکلام، بل نقول: لا بدّ أن یکون بین الکلام و ذلک الشیء ملابسة کما فی الحدّاد و الصّباغ و التمّار و غیرها، و هی محقّقة هاهنا. إذ الکلام مخلوق (9) له تعالى،
و بالجملة لا یلزم أن یکون إطلاق الألفاظ على وتیرة (10) واحدة، فانّ المضیء قد یطلق على ما کان نفس الضوء فلا یصدق علیه بمعنى ما قام به الضّوء، و کذا التّمّار یطلق على من کان بائعا للتّمر لا على من قام به التّمر، فلا یتّجه علینا النّقض بالذّائق، کما ذکره النّاصب الخالی عن ذوق التّحقیق، و لا بالمتحرّک کما أورده شارح العقائد، و لا ما أورده الشّارح الجدید للتّجرید: من أنّا إذا سمعنا قائلا یقول: أنا قائم، نسمّیه المتکلّم و إن لم نعلم أنّه الموجد لهذا الکلام، بل و إن علمنا أنّ موجده هو اللّه تعالى (11) کما هو رأى الأشاعرة «انتهى» و قد اعترف بهذا فخر الدّین الرّازی فی المسألة الثالثة و الأربعین من الباب الأوّل من القسم الأوّل من الکتاب الأول من فواتح تفسیره الکبیر حیث قال: و التّحقیق فی هذا الباب أنّ الکلام عبارة عن فعل مخصوص، جعله الحىّ القادر لأجل أن یعرّف غیره ما فی ضمیره من الإعتقادات و الإرادات، و عند هذا یظهر أنّ المراد من کون الإنسان متکلّما
بهذه الحروف مجرّد کونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص «انتهى» على أنّ ما ذکره النّاصب و شارح العقائد بحث لفظیّ لا یعتدّ به فی المباحث العقلیّة، و إذا قام الدّلیل على امتناع کونه تعالى متکلّما بالمعنى اللّغویّ المشهور، و هو أنّ المتکلّم بمعنى من قام به الکلام و لم یتمّ الدّلیل على المعنى القائم بالذّات، فلا بدّ من التّشبث بالمعنى اللّغوی الغیر المشهور، و هذا کما قیل: فی حمل الموجود علیه تعالى على قاعدة الحکماء و من وافقهم من أنّ الوجود عین حقیقته غیر قائم به، إذ على هذا لا یصحّ لغة أن یقال: إنّه تعالى موجود، إذ معنى الموجود لغة من قام به الوجود، و هو یقتضی المغایرة، و ذلک باطل عندهم «تأمّل» و السّر فی أنّ أهل اللّغة ربما یفسّرون صیغة الفاعل بمن قام به الفعل، ما قاله بعض المحقّقین: من أنّ اللّغة لم تبن (12) على النّظر الدّقیق، بل هم ینظرون إلى ظاهر الحال فیحکمون بقیام الکلام بالمتکلّم و یقولون باتّصاف المتکلّم به حال التّکلّم: و کیف لا؟ و لو بنیت اللّغة على النّظر الدّقیق لتعذّر فی أکثر أفعال الحال؟ فانّه یلزم أن یکون مجازا، مع أنّهم اتّفقوا على أنّ المضارع حقیقة فی الحال، فی مثل یمشی، و یتکلّم، و یخبر، بل یتوسّعون فی معنى الحال، و یعمّمونه عن المشی بین المشرق و المغرب، و یریدون به الحال، و قس علیه الحال فی اسم الفاعل إذا قالوا: إنّه حقیقة فی زید ماش من المشرق إلى المغرب، و الحاصل أنّ النّظر الدّقیق یقتضی عدم قیام المبدأ و عدم بقائه فی محلّ یقوم به، و ظاهر النّظر یمیل إلى القیام و البقاء، و الملخّص أنّ معنى اسم الفاعل (13) مثلا هو الأمر المجمل الذی یعبّر عنه فی الفارسیّة «بدانا» و
إذا أردنا تحلیله (14) نعبّر عنه بذات له العلم، مع أنّا نعلم أنّ الذّات غیر مأخوذة فی معنى العالم و کذا قیام معنى العلم، امّا أن الذّات غیر مأخوذة فلأنّا إذا قلنا زید عالم نعلم یقینا أنّ زیدا بمنزلة الذات، و لیس المراد بزید ذات له العلم، بل المراد زید له العلم، و کیف لا؟ و قد استدلوا على ذلک بأنّه لو کان شیء أو ذات مأخوذا فی المشتقّ لکان النّاطق مرکبا من العرضی، کما قاله سیّد المحقّقین (15): قدّس سرّه فی حاشیة المطالع، فیلزم أن لا یصحّ التحدید به، و فوق هذا کلام: و هو أنّ إطلاق اسم المتکلّم على الفاعل للکلام ثابت فی لسان العرب، بل و لا یطلقون اسم المتکلّم على القائم به الکلام أصلا، لأنّ الفعل لا یوصف به المفعول، بل إنّما یوصف به الفاعل کالضّرب مثلا، فلا یقال: الضّارب لمن وقع علیه الضّرب، بل لمن فعل الضّرب، فحینئذ لا یقال المتکلّم من قام به الکلام بل من فعله، و إلا لکان الهواء متکلّما لقیام الحروف و الصّوت به، و قالوا تکلّم الجنّ: على لسان المصروع (16) لاعتقادهم أنّ الکلام المسموع من المصروع فاعله الجنّ، فأسندوه إلى الفاعل لا القائم به، و الأشاعرة لمّا قالوا إنّ الکلام هو المعنى قالوا: معنى کونه متکلما هو قیام ذلک المعنى بذاته، ثمّ افتروا به على اللّغة. فان قلت الکلام على ما ذکرتموه یرجع إلى القدرة فلا یکون صفة مستقلّة أخرى، قلت: لا محذور فی إرجاعه إلى القدرة و عدّه صفة مستقلّة أخرى، بناء على فائدة مخصوصة: هی أنّ
أفعال العباد قولا و فعلا مخلوقة بقدرة العبد أو بقدرة اللّه، و کسب العبد و القرآن مخلوق له بلا واسطة قدرة العبد و کسبه، و تحقیقه: أنّ اللّه تعالى یعلم جمیع المعلومات، فعلم القرآن فی الأزل بأنّه سیوجده بقدرته القدیمة فی جسم من الأجسام من غیر کسب (17)، بخلاف کلام البشر فانّه عالم فی الأزل بأنّه سیوجده البشر بقدرته الحادثة أو بکسبه. و ممّا یکسر سورة (18) استبعاد الخصم: أنّ صفتی السّمع و البصر راجعتان إلى العلم باتّفاق الأشاعرة معنا، مع أنّهما عدّتا صفتین مستقلّتین متابعة للشّارع حیث أفردهما عن العلم فی الذّکر لغایة اهتمامه باثباتهما، و باعتقاد المکلّفین لاتصافه تعالى بهما.
1) أطبقت الکتب السماویة و کلمة أرباب الملل على أنه تعالى متکلم، و الاختلاف فی حقیقة کلامه و کیفیته من الحدوث و القدم و عینیته للذات و عدمها و أنه من مقولة الألفاظ أو المعانی القائمة بذاته، و سیأتی ما هو الحق الحقیق بالقبول.
2) زور الشیء اى حسنه و قومه.
3) أقول عبر بعضهم عن ذلک بالألفاظ المتخیلة کما صرح بذلک مرارا علامة القوم السید ابراهیم الراوی البغدادی فی حلقة درسه بجامع السید سلطان على ببغداد و العاقل المنصف لو تدبر لرأى ان هذه الأمور التی عبر عنها الناصب بالمعانی المزورة و غیره بالألفاظ المتخیلة لیست إلا صور حاصلة فی الذهن مترتبة حسب أغراض المتکلمین و اللافظین، و علیه فهل هی الا تصورات و تصدیقات، و هل هما الا من مقولة العلم؟فحینئذ فما معنى قولهم ان الکلام النفسی لیس من مقولة العلم بقسمیه و لا الإرادة و لا الکراهة و لا مقدماتهما و لا الإذعان بالوقوع و اللاوقوع و لا غیرها، فیا معاشر العقلاء من أرباب الملل و النحل أقسمکم بما تبجلونه و تعظمونه، أعرضوا مقالة هؤلاء الذین عقلوا عقولهم بإنکار الحسن و القبح على ألبابکم فانظروا بما ذا تحکم لنا أو لهم.
4) قال جار اللّه الزمخشرىّ فی الفائق ج 1 ص 553 طبع مصر، یقال رحم اللّه امرأ زور نفسه على نفسه، اى اتهمها علیها، یقال: انا أزورک على نفسک، و حقیقته: نسبتها الى الزور کفسقه و جهله انتهى و ذکر معانی أخر للتزویر من الجمع، و العرض، و التسویة، و زوال العوج، و التعفیة الى غیر ذلک؛ و أنت ترى ان بعض المذکورات، تناسب ما نحن فیه و قد تقدم فی معنى التزویر ما هو انسب فراجع.
5) إشارة الى الشعر المشهور الذی تمسک به بعض الاشاعرة فی اثبات الکلام النفسی (شعر)ان الکلام لفی الفؤاد و انماجعل اللسان على الفؤاد دلیلا.
6) و کأنه اختلط الأمر على الناصب و لم یتوجه الى ان المراد من العلم ما ذا، هل هو المصطلح المنطقی او الأصولی أو اللغوی فکم فرق بینها کما لا یخفى.
7) مسألة اتحاد الطلب و الإرادة مما اختلفت فیه کلمة الفحول من الفریقین، و منشأ النزاع فیها ما صدر من الاشاعرة من الالتزام بالکلام النفسی فی المائة الثالثة، ثم سرى ذلک الى الأصول فصارت المسألة محل بحث فی کلا العلمین، فاختلفوا فی المسألة على اقوال فمنهم من جعل النزاع لغویا فی تعیین ما هو الموضوع له لکلیهما بعد تسلم کونهما مترادفین؟ و انه هل هو الشوق المؤکد أو من مقدماته؟ او بالعکس.و منهم من جعل النزاع عقلیا و انه هل هناک اتحاد بین الطلب و الإرادة حقیقة ام لا؟فهم بین قائل باتحادهما مفهوما و مصداقا مع الاختلاف فی المنصرف الیه عند العرف و لازمه کون اللفظین مترادفین و بین قائل بتغایرهما مفهوما و اتحادهما مصداقا و بین قائل بتغایرهما مفهوما و مصداقا، ذهب الیه اکثر الاشاعرة و عدة من أصحابنا المتأخرین.ثم ان القائلین بتغایرهما کذلک اختلفوا علی قولین، فمنهم من جعل الإرادة و الطلب کلیهما من مقولة الکیف النفسانی، و جعل الإرادة فی مرتبة متقدمة على الطلب، و منهم من جعل الإرادة من مقولة الکیف النفسانی و الطلب من مقولة الفعل النفسانی و ادعى وضوحه بشهادة الوجدان و ذکر ان الإرادة صفة قائمة بالنفس موجبة لحرکة نفسانیة هی فعل النفس و هذه غیر الحرکة الخارجیة القائمة بالأعضاء فتکون الحرکة الخارجیة فی مرتبة ثالثة متأخرة عن مرتبة تحقق الحرکة النفسانیة و هی متأخرة عن مرتبة تحقق الإرادة، و کان یعبر بعض المحققین من المتأخرین عن حرکة النفس بالحملة النفسانیة و کان یلتزم بأن هناک أمورا بنحو السلسلة الطولیة هکذا (1) مقدمات الشوق المؤکد (2) نفس الشوق المؤکد (3) تحریک الشوق للنفس (4) حرکة النفس بعد التحریک (5) حرکة الأعضاء نحو الفعل أو مقدماته.و أنت خبیر بأن ما حققه و دققه حقیق بالقبول و لا یشک ذو مسکة فی تغایر التحریک أو الحرکة مع الشوق القائم بالنفس، لکنه مع التزامه بالتعدد خالف الاشاعرة فی مسلکهم حیث ان الطلب عنده من مقولة الفعل النفسانی أو الفعل الخارجی، و الأشعری مع کونه قائلا بالتعدد ینکر کونه من تلک المقولات بل جعله امرا نفسانیا مغایرا لجمیع ذلک، فیکون أحسن الاجوبة عن مقالة الأشعری ما افاده المتقدمون من أصحابنا رضوان اللّه علیهم من الاحالة الى الوجدان و أنا إذا راجعنا الى وجداننا لا نجد امرا مغایرا لما ذکر، و البرهان عند شهادة الوجدان مما یستغنى عنه.
8) و فیه إشارة الى ضعف دعوى العینیة إذ نحن نجد تفرقة ضروریة بین مدلول قولنا:افعل، و بین قولنا: أرید الفعل و هو ظاهر، أو الى ضعف نسبة هذه الدعوى الى المعتزلة کما یدل علیه کلام الفاضل عبد الحی البدخشی الحنفی فی شرح منهاج الأصول عند قول مصنفه: و الطلب غیر الإرادة خلافا للمعتزلة «إلخ» فیه بحث أما أولا: فلان المفهوم من کلامه حیث قال: ان النزاع فی الطلب مطلقا أعم من أن یکون بالنسبة الى اللّه تعالى أو العبد و هو فاسد، إذ الطلب باقسامه کطلب الفعل و الکف و الإقبال و غیرها من الکلام النفسی، و المعتزلة أنکروا ثبوته لله تعالى لا أنهم جعلوها عین الإرادة، فان أرید أنهم سموا الإرادة طلبا فهو مما لم ینقل عنهم، کیف؟ و عند البصری منهم أن إرادته تعالى العلم بالمصلحة، و عند النجار أنها معنى سلبی و هو أنه لیس بساه و لا مکره و لا مغلوب فیما فعل، و عند النظام و الکعبی أن إرادة فعل نفسه علمه بوقوعه، و إرادة فعل غیره الأمر به، و الأمر عندهم الکلام اللفظی، و لا خفاء فی أنه لا یحسن اطلاق الطلب على شیء من هذه المعانی الا الأمر اللفظی مجازا، و یؤکد ذلک ما فی شرحه المختصر: من أن الطلب لما کان نوعا من الکلام النفسی الذی أنکروه و لم یمکنهم أن یحدوا الأمر به، و تارة حدوه باعتبار اللفظ فقیل هو قول القائل لمن دونه: افعل، و تارة باقتران صفة الإرادة، فقیل هو صیغة افعل بارادة وجود اللفظ و دلالته على المعنى و الامتثال، و تارة جعلوه نفس صفة الإرادة فقیل: الأمر إرادة الفعل، و هذا صریح فی أنهم لم یجعلوا الإرادة طلبا و لا بالعکس، اللهم الا أن یقال: انهم جعلوا الأمر اللفظی الذی یطلق علیه الطلب مجازا غیر إرادة المأمور به، أو یقال: ان بعضهم أثبت له إرادة حادثة لا فی محل، فیجوز أن یکونوا سموه طلبا «انتهى» منه قده.
9) مسألة مخلوقیة کلامه تعالى، و ان القرآن قدیم، أو حادث، مما وقع النزاع فیها من سالف الزمان، بحیث قتل جمع من القائلین بقدمه، و کذا من القائلین بحدوثه و کان المأمون العباسی، من أشد العاضدین للحدوث. و القادر و المتوکل العباسیان قتلوا جماعة من القائلین بالحدوث و اکثر الاشاعرة، کالشیخ أبى الحسن شیخهم فی کتاب الابانة و القاضی محمد بن الطیب الباقلانی و ابن فورک و الباهلی و امام الحرمین ذهبوا الى قدمه و استدلوا على ذلک بوجوه من السمع و العقل کلها مجاب عنها باجوبة شافیة، و المعتزلة و غیرهم ذهبوا الى حدوثه، و لهم أدلة من النقل و العقل، و الرازی فی کتاب الأربعین ص 179 و ص 180 جمع بین کلمات الفریقین، و جعل هذا النزاع الطویل الذیل قریبا من النزاع اللفظی، و قال ان کلامه تعالى، بمعنى الأصوات و الحروف، لا کلام فی کونها حادثة، و اما کلامه الذی هو مدلول تلک الدوال فهو قدیم واحد بالذات، مختلف بالاعتبار، من حیث اتصافه بالامریة و النهییة و الخبریة و غیرها الى آخر ما قال و أنت خبیر بان النزاع بین الاشاعرة، و بین مخالفیهم فی ثبوت ذاک الأمر الواحد القدیم بجعله مغایرا للارادة و الکراهة و العلم فالاشعرى یدعى التغایر، و خصمائه ینکرون ذلک، فعلیه لا یکون النزاع لفظیا أو لغویا کما احتمله فی طی کلماته.ثم ان من الاشاعرة من صرح، بکون الأصوات و الحروف کمدا لیلها قدیمة أیضا، کما ان الکرامیة، ذهبوا الى انه خلق تلک الأصوات و الحروف فی ذاته القدیم و جعلوا ذاته تعالى شأنه محلا لتلک الحوادث.و بالجملة لو تأملت فی هذه الأقوال و الکلمات التی هی بین افراط و تفریط لرأیت بعین العیان ان النزاع لیس بلفظی کما توهمه و ان هناک ابحاثا، و مضامیر فللنزاع فی اثبات امر قدیم قائم بذاته واحد بالذات مدلول للکلام اللفظی، مضمار و للنزاع فی کون الدال علیه قدیما أو حادثا مضمار و للنزاع فی قیام ذاک الدال الحادث بذاته تعالى أو عدمه مضمار ثالث و فی کل من هذه المعارک کم من فئة هالکة مهلکة و الصراط الواضح، و النجم اللامع اللائح، ما أخذته الاصحاب رضوان اللّه علیهم، عن أئمة اهل البیت علیهم السلام، فان علومهم مستفادة، من المشکاة النبویة و المصباح الذی استنیر من النور الإلهی، و الوحى الربانی الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه و من خلفه ثبتنا اللّه تعالى على التمسک باذیالهم، و اتباع آثارهم، و حشرنا فی زمرة من لم یعرف سواهم آمین آمین.
10) الوتیرة. الطریقة.
11) لا یخفى ان هذا مقلوب علیهم فانا إذا سمعنا قائلا یقول: انا قائم نسمیه المتکلم، و ان لم نعلم ان الکلام قائم به، بل و ان علمنا انه لیس قائما به بل بالهواء تأمل.منه «قده».
12) مضافا الى ان شأن اللغوی بیان موارد الاستعمال لا الوضع و ان کان هذا لا یخلو عن مناقشة أوردناها فی مباحث الألفاظ.
13) الظاهر أن کلمة «کالعالم» ساقطة من قلم الناسخ.
14) و ذلک لا ینافی بساطة المشتق و عدم أخذ الذات فی مفهومه کما حققه المتأخرون من الأصولیین و المنطقیین فمعانی المشتقات مفاهیم مجملة فی الإدراک الاولى قابلة للتحلیل بالتعمل و التأمل.
15) هو المحقق الشریف الجرجانی و قد مرت ترجمته.
16) الصرع. علة تمنع الأعضاء النفسانیة عن افعالها منعا غیر تام، و یقال لمن غشى علیه مصروع.
17) الکسب من مصطلحات الاشاعرة و قد مر شرحه و بیان المراد منه فی تعالیقنا السابقة التی ذکرنا فیها الفروق بین الاشاعرة و الماتریدیة، و سیجیء فی کلام القاضی الشهید شرحه أیضا.
18) السورة بفتح السین المهملة و سکون الواو، یقال سورة الشیء لحدته و سورة السلطان لسطوته و سورة المجد لأثره و ارتفاعه و سورة البرد لشدته.