قال المصنّف رفع اللّه درجته
المبحث العاشر فی أنّ القدم و الحدوث اعتباریّان، ذهب بعض الأشاعرة إلى أنّ القدم وصف ثبوتی قائم بذات اللّه تعالى، و ذهبت الکرامیّة (1) إلى أنّ الحدوث وصف ثبوتیّ قائم بذات الحادث و کلا القولین باطلان، لأنّ القدم لو کان موجودا مغایرا للذّات لکان إمّا قدیما أو حادثا، فان کان قدیما لکان له قدم آخر و تسلسل، و إن کان حادثا کان موصوفا بنقیضه و هو محال، و کان اللّه تعالى
محلا للحوادث و هو محال و کان اللّه قبل حدوثه لیس بقدیم و الکلّ معلوم البطلان و أما الحدوث فان کان قدیما لزم قدم الحادث الذی هو شرطه و کان الشیء موصوفا بنقیضه و إن کان حادثا تسلسل، و الحقّ أنّ القدم و الحدوث من الصّفات الاعتباریّة «انتهى.»
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: لیس کون القدم وصفا ثبوتیّا مذهب الشّیخ الأشعری و ما اطلعت على قوله فیه و أما قوله لو کان القدم وصفا ثبوتیّا فامّا أن یکون قدیما فیکون له قدم آخر و یتسلسل، فالجواب عنه: أنّا لا نسلّم لزوم التّسلسل إذ قد یکون قدم القدم بنفسه (2) و أیضا جاز أن یکون قدم القدم أمرا اعتباریّا فان وجود فرد من أفراد الطبیعة لا یستلزم وجود جمیعها «انتهى.»
أقول: [القاضى نور اللّه]
یتوجّه علیه أوّلا أنّ المصنّف لم یقل: إنّ الشّیخ الأشعری ذهب إلى ذلک بل قال: ذهب بعض الأشاعرة إلى ذلک و لا یلزم أن یکون قول أصحابه قولا له، فانّ زیادة الوجود قول لأصحابه الأشاعرة، و لیس قولا له (3) لأنّه قائل بعینیّة الوجود فی جمیع الموجودات کما هو المشهور المقرّر لدى الجمهور.
و ثانیا أن ما ذکره فی الجواب أوّلا مدخول بما حقق فی الشرح الجدید للتجرید و حاشیته القدیمة: من أنّ الصّفة القائمة بشیء لا یجوز أن یتّصف بصفة هی عینها، نعم لو کانت قائمة بالذّات جاز اتّصافه بصفة هی عینها، کالواجب تعالى فانّه عین الوجود القائم
بالذّات، و لهذا کان موجودا بوجود هو عینه، فالقدم لمّا کان قائما بالقدیم لم یجز أن یتّصف بقدم هو عینه، و أیضا مدفوع بما سبق من أنّ کلام المصنّف إلزامی (4) لهم حیث استحالوا عینیّة الصّفات معلّلا بأنّه مثل أن یقال: عالم لا علم له، قادر لا قدرة له، أسود لا سواد له، و هذا التّعلیل و التّمثیل جار فیما نحن فیه، فلا یمکنهم أن یقال فی مقابل کلام المصنّف و إلزامه إیّاهم بما ذکر إنّ قدم القدم عینه کما لا یخفى و ثالثا أن ما ذکره ثانیا من أنّ وجود فرد من أفراد الطبیعة لا یستلزم وجود جمیعها، مردود بما حقّق فی الکتابین أیضا من أن نوع الصّفة إذا کانت من الموجودات الخارجیّة لا یجوز أن یکون فرد منها عارضا لشیء و صفة له و لم تکن تلک الصفّة موجودة، فقدم القدم لمّا کان نوعه موجودا کان عند عروضه للقدم موجودا و بعبارة أخرى لا یجوز أن یکون بعض أفراد الحقیقة النّوعیّة الموجودة وجودیّة موجودة فی الخارج، و بعضها اعتباریّة ممتنع الوجود فیه (5) فالبیاض مثلا لمّا کان شأنه الوجود فی الخارج لم یجز أن یتّصف به الشیء اتّصافا تترتّب علیه الآثار إلا بأن یوجد فی موصوفه بالوجود الخارجی، و إلا لزم أن یجوز کون الجسم أبیض بالبیاض المعدوم و یتحرّک بالحرکة المعدومة، و هذا سفسطة ظاهر البطلان صرّح بذلک الشّارح الجدید للتجرید و تلقاه بعض أجلّة المتأخرین (6) بالقبول و هو حقّ لا ریب فیه رغما لأنف النّاصب الجاهل السّفیه. و الحاصل أنّ بدیهة العقل حاکمة بأنّه إذا کانت الصّفة معدومة لا یمکن اتّصاف الموجود بها اتّصافا یترتّب علیه
الآثار، فانّه کما لا یمکن اتّصاف الجسم الموجود بالبیاض المعدوم اتّصافا یترتّب علیه تفریق البصر، کذلک لا یمکن اتّصاف القدم الموجود الثّابت بالقدم المعدوم بحیث یترتّب علیه ثبوت القدم، و أیضا القائل بثبوت القدم و قیامه بذاته تعالى یلزم القول: بثبوت قدم القدم أیضا لأنّ السّبب الذی حمله على القول بذلک فی القدم و هو أنّه لو لم یکن ثابتا قائما بالموصوف لما کان اتّصافه تعالى بالقدم حقیقة، موجود فی قدم القدم إذ لو لم یکن ثابتا لم یکن اتّصاف القدم به اتّصافا حقیقیّا. (7) ثم لا یخفى أنّ النّاصب لم یتعرّض للجواب عمّا نسب إلى الکرامیّة لانقراضهم و إن کانوا من أهل السّنة و الجماعة.
1) قد مر شرح الکرامیة و انهم اتباع ابن کرام من اهل السنة.
2) فعلیه فینقطع التسلسل، و کم له فی الأشیاء نظیر، کما یقال ان دسومة کل شیء بالدهن و دسومة الدهن بنفسه، و ملوحة کل شیء بالملح و ملوحته بنفسه و قس علیه فعلل و تفعلل.
3) و فی المباحث العلمیة کثیرا ما تختلف انظار التابعین مع متبوعهم، و من راجع الکتب فی العلوم بأسرها صدق ما قلنا.
4) قد مر المراد من الدلیل الالزامى.
5) إذ حکم الأمثال فیما یجوز و ما لا یجوز سواء، و افراد النوع الواحد متماثلة بعضها مع بعض فان التماثل لیس الا الاشتراک فی الحقیقة النوعیة و الامتیاز بالمشخصات.
6) المراد به المولى الجلیل جلال الدین محمد الدوانی. منه «قده» و قد تقدمت منا ترجمة حاله فلیراجع.
7) بل اعتباریا و هو خلف.