قال المصنّف رفع اللّه درجته
المطلب السابع فی أنّ اللّه تعالى لا یعاقب (1) الغیر على فعله تعالى، ذهبت
الإمامیة و المعتزلة إلى أنّ اللّه تعالى لا یعذّب العبد على فعل یفعله اللّه تعالى فیهم و لا یلومهم علیه، و قالت الأشاعرة إنّه تعالى لا یعذّب العبد على فعل العبد، بل یفعل اللّه فیه الکفر، ثمّ یعاقبه علیه، و یفعل فیه الشّتم للّه تعالى، و السّب له تعالى و لأنبیائه و یعاقبهم على ذلک، و یخلق فیهم الاعراض عن الطاعات و عن ذکره تعالى و ذکر أحوال المعاد، ثمّ یقول: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْکِرَةِ مُعْرِضِینَ (2) و هذا أشّد أنواع الظلم و أبلغ أصناف الجور تعالى اللّه عن ذلک علوّا کبیرا، و قد قال اللّه تعالى:
وَ ما رَبُّکَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ (3) وَ مَا اللَّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (4) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لکِنْ کانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ (5) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (6) و أىّ ظلم أعظم من أن یخلق فی العبد شیئا، و یعاقبه علیه، بل یخلقه أسود، ثم یعذّبه على سواده، و یخلقه طویلا، ثم یعاقبه على طوله، و یخلقه أکمه، و یعذّبه على ذلک، و لا یخلق له قدرة على الطیران إلى السماء، ثم یعذّبه بأنواع العذاب على أنّه لم یطر، فلینظر العاقل المنصف من نفسه التّارک للهوى، هل یجوز له أن ینسب ربّه عزّ و جل إلى
هذه الأفعال؟ مع أنّ الواحد منّا لو قیل له: إنک تحبس عبدک و تعذّبه على عدم خروجه فی حوائجک، لقابل بالتکذیب و تبرّأ عن هذا الفعل، فکیف یجوز أن ینسب إلى ربّه ما یتنزه هو عنه؟ «انتهى».
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: مذهب الأشاعرة أن لا خالق غیر اللّه تعالى، کما نصّ فی کتابه العزیز:
اللَّهُ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ (7) و هو یعذب العبد على فعل العبد، لأنّ العبد هو المباشر و الکاسب (8) لفعله و إن کان خلقه من اللّه تعالى، و الخلق غیر الفعل و المباشرة، ثم إنّه لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غیر صدور الذنب عنهم، یجوز له ذلک، و لیس هذا من باب الظلم و الجور، لأنّ الظلم هو التصرف فی حق الغیر، و من تصرف فی حقّه بأىّ وجه من وجوه التّصرف، لا یقال: إنّه ظلم (9) فالعباد کلّهم ملک اللّه
تعالى، و له التّصرف فیهم کیف یشاء، ألا ترى إلى قول عیسى علیه السّلام حیث حکى اللّه تعالى عنه: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُکَ، جعل العبودیة سببا مصححا للتعذیب (10) و المراد أنّهم ملکک، و لک أن تتصرف فیهم کیف شئت، فلا ظلم بالنسبة إلیه تعالى کیفما یتصرف فی عباده، هذا هو مذهب الحقّ الأبلج، و ما سواه بدعة و ضلالة کما ستراه و تعلمه بعد هذا فی مبحث خلق الأعمال إنشاء اللّه تعالى، و ما ذکره من خلق الأسود و تعذیبه بالسواد، فهذا من باب طامّاته، و کذا ما ذکره من الامثلة، فإن هذه الأشیاء أعراض خلقت، و لا یتعلق به ثواب و عقاب، و الأفعال المخلوقة لیست مثل هذه الأعراض لأنّ العبد فی الأفعال کاسب و مباشر، و الثّواب و العقاب بواسطة المباشرة کما ستعرف «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
لا نسلم أنّه تعالى فی الآیة المذکورة جعل مجرّد العبودیة سببا للتعذیب، إذ الظاهر أنّ الإضافة فی عبادک للعهد، و لهذا لم یقل عباد لک، أو عبدک فافهم، فالمراد أنّهم عبادک الذین عرفتهم عاصین مکذبین لرسلک منکرین لأنبیائک، و قد دلّ على عصیانهم و شرکهم صدر الآیة حیث خاطب اللّه تعالى فیه عیسى بن مریم علیه السّلام بقوله: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَکَ ما یَکُونُ لِی أَنْ أَقُولَ ما لَیْسَ لِی بِحَقٍّ (11) إلى آخر الآیة، و أمّا ما ذکره: من أنّ الأمثلة المذکورة من خلق السواد و الطول و نحوهما أعراض خلقت، و لا یتعلق به ثواب و عقاب، و الأفعال المخلوقة لیست من هذه الأعراض «إلخ» فحقیق بالاعراض و ذلک لأنّ التمثیل إنما هو بالنظر إلى اتّصاف الأعراض المذکورة بمحلیّة العبد لها، و لا ریب فی مشارکة الأفعال لها فی هذا الوصف، فلا یظهر الفرق بین الأمرین فی جعل المحل بالنسبة إلى أحدهما موجبا لترتّب الثواب و العقاب دون الآخر، و أمّا المباشرة فإن أرید به أیضا معنى المحلیة کما یشعر به ظاهر کلام المصنّف بمعنى أنّ العبد یصیر محلا لمباشرة العصیان و الاتصاف به، فلا یحصل الفرق أیضا، و إن أراد به صدور فعل المعصیة مثلا عن العبد، فقد وقع الاعتراف بأنّ العبد فاعل لبعض أفعاله، فثبت مذهب أهل العدل إذ لا قائل بالفصل فافهم.
1) قال مولانا العلامة المجلسی «قده» فی تعالیقه على شرح التجرید ما لفظه: الحق أنه لا یجوز ان یعاقب اللّه تعالى الناس على فعله کالشیب و الشباب و الطول و القصر و لا یلومهم على صنعه فیهم، و انما یعاقبهم على أفعالهم القبیحة، و الاشاعرة یلزمهم الالتزام بعقابه تعالى الناس على ما لم یفعلوه، بل على فعله فیهم تعالى عن ذلک علوا کبیرا، و الأدلة السمعیة و الشواهد العقلیة دالة على بطلان ما ذهبوا الیه.
2) إشارة الى قوله تعالى فی سورة المدثر. الآیة 49.
3) صورة فصلت. الآیة 46.
4) غافر. الآیة 31.
5) هود. الآیة 101 و النحل. الآیة 118 و الزخرف. الآیة 76.
6) الانعام. الآیة 164. و الاسراء. الآیة 15: و فاطر. الآیة 18. و الزمر الآیة 7 و النجم. الآیة 38.
7) الزمر. الآیة 62.
8) قد مر سابقا أن الالتزام بالکسب الذی اخترعته أرباب القول بالجبر مما لا یسمن و لا یغنى من جوع، و لا تدفع به التوالی الفاسدة المترتبة على ذلک المبنى.
9) تحقیق المقام یقتضى تحصیل المعرفة بالمراتب المتحققة بین الباری جلت عظمته و بین عباده، فنقول ان هناک اربع مراتب.المرتبة الاولى مرتبة الملکیة الحقیقیة المطلقة التامة له تعالى على عباده. و العباد فی هذه المرتبة بذواتها مملوکة له تعالى، و المملوکیة له تعالى عین ذواتها و لیست ذواتها الا انها له، فان ذات الوجود الامکانى لیس الا التعلق بالواجب تعالى و انه له، لا ان له ذاتا ثبت له انه له تعالى و الا لزم استغنائه فی ذاته عن الواجب تعالى، و لا دخل فی ذاته امر غیر کونه للّه تعالى و الا لزم استغنائه فی بعض ذاته عنه. و مقتضى هذه المرتبة جواز تصرفه تعالى فیهم بما شاء من تعذیب و غیره فانه لیس بأعظم من اعدامه رأسا و لیس هو بعد الا قطع علقته تعالى عنه و لا یحکم شیء من العقول یکون قطع علقته عن غیره ظلما له و تعدیا علیه المرتبة الثانیة مرتبة الملکیة الاعتباریة اعنى المالیة. و هی جهة اعتباریة تعرض للأشیاء بعد تذوت ذاتها و تحصل ما یقوم بها من اعراضها، و بالجملة بعد تکون ما کان لها من الحقیقة بحسب الذات و الاعراض و الأحوال فی الخارج. و المالک للعبد بهذه الملکیة لا یجوز له عقلا الا استعماله فیما یقدر علیه من الاعمال، و تعذیبه من غیر صدور ذنب منه ظلم فی حقه و تعد علیه. و قد نزل اللّه تعالى نفسه بمقتضى رحمته الواسعة منزلة هذه الموالی الاعتباریة، کأنه تعالى أعتقهم عن الرقیة الذاتیة التی یستحیل انسلابها عنهم و لم یبق له الا الملکیة الاعتباریة الحاصل نظیرها لبعض العباد على بعضهم، و هذا کرم عظیم لا یدرک امده ادراک المدرکین. و مقتضى هذه المرتبة انه لا یجوز له تعالى تعذیب العباد الا عقوبة لهم على کسب السیئة و الاقتحام فی المعصیة، و کان تعذیبهم من غیر ارتکاب سیئة ظلما لهم و تعدیا علیهم، و لذلک قال تعالى: وَ لِتُجْزى کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ (الجاثیة 22) و قال تعالى: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَةِ فَلا یُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ (الانعام 160) و قد کثر ذکر ذلک فی القرآن الکریم فی نحو من أربعین آیة قد سبق عدها منا فی التعالیق السابقة عند التعرض لآیات الجبر و التفویض فراجع.المرتبة الثالثة مرتبة معاملة الأحرار. و هو جلت عظمته ساق عباده فی هذه المرتبة مساق الأحرار، فلم یطالبهم الا الشکر على ما أعطاهم من النعم. و المطالبة بشکر النعم حق ثابت على الأحرار و لیس للعبودیة مدخل فی ثبوته و مع ذلک لم یطالب منهم الا الشکر الیسیر و الثناء القلیل بما لا یقابل الا نعمة حقیرة من نعمائه العظیمة و آلائه الواسعة التی أسبغها علیهم ظاهرة و باطنة بما لا یبلغها العد و الإحصاء،قال زین العابدین سید الساجدین على بن الحسین علیهما آلاف التحیة و الثناء فی دعاء له ع: آلائک جمة ضعف لسانی عن إحصائها و نعمائک کثیرة قصر فهمی عن إدراکها فضلا عن استقصائها فکیف لی بتحصیل الشکر و شکرى إیاک یفتقر الى شکر، فکلما قلت لک الحمد وجب على لذلک ان أقول لک الحمد.المرتبة الرابعة مرتبة الغمض عن النعم و المعاملة معهم معاملة من استعمل حرا فی عمل منه او اعمال ابتداء من غیر استحقاقها منه سابقا، فانه یلزمه ضمانه و اثابته بما یقابله من الجزاء، دون ما إذا استعمل عبدا له، فانه لا یلزم له على مولاه مثوبة بإزاء عمله، و دون ما إذا استعمل حرا فی عمل یستحقه فی قبال ما آتاه ما العطایا و النعم. و قد اجرى اللّه تعالى نفسه على هذه المنزلة فجعل لعباده حقا علیه ان یثیبهم على طاعتهم و یجزیهم بأضعافها من الإحسان، فقال تعالى: فَأُولئِکَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِی الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (السباء 37) و قال تعالى: فَأُولئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا یُظْلَمُونَ نَقِیراً (النساء 124) هذه المراتب المتحصلة بینه تعالى و بین عباده قد جعلها لهم من رحمته الواسعة، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ. و اما ما توجه عنه تعالى من التکلیف الى العباد فقد جعل فیه شئونا من رحمته. و هی أربعة الاول انه تعالى قد جعل فائدة التکلیف عائدة الى العباد، و لیس یعود الیه تعالى نفع من طاعة العباد، و لیس تکلیفه لهم على نسق تکلیف الموالی و استعمالهم عبیدهم لاستیفاء النفع منهم و ان کان التکلیف منهم فی مورد خالیا عن نفع عائد کان ذلک لأجل الالتذاذ بالاستعلاء و اظهار سلطة و سلطنة علیهم، تعالى عن ذلک کله علوا کبیرا و الا فهو تعالى لو کان قد أراد من التکلیف شیئا من ذلک لمنع عباده عن ان یتجرءوا علیه بالظلم و المعصیة.الثانی انه تعالى یعین من أراد الطاعة من عباده علیها، قال تعالى: وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا (العنکبوت 69)، و قال تعالى، إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ یَهْدِیهِمْ رَبُّهُمْ بِإِیمانِهِمْ (یونس 9). و قال تعالى: وَ یَزِیدُ اللَّهُ الَّذِینَ اهْتَدَوْا هُدىً (مریم 79). و قال تعالى: وَ الَّذِینَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (محمد 17).الثالث انه تعالى فتح علیهم باب التوبة و جعل الندم هدما للسیئات و فوزا لرضوان اللّه قال تعالى هُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ یَعْفُوا عَنِ السَّیِّئاتِ (الشورى 25).و قال تعالى: أَ فَلا یَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ یَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ (المائدة 79).الرابع قد جعل تعالى شأنه لمن ارتحل عن نشأة التکلیف حاملا على ظهره ثقلا من الذنوب لم یجعل لنفسه طریقا الى المغفرة بالانابة و التوبة شفاعة الشافعین، أعدها لمغفرة عباده حیث لم یشملهم المغفرة لعدم بقاء قابلیة لهم بأنفسهم لشمولها، فیشملهم المغفرة بطفیل وجود الشافعین. و حقیقة الشفاعة على ما یستفاد من الاخبار جعل الشفیع الذنب الصادر من المشفوع منتسبا الى نفسه لیغفره المولى لما کان له عند المولى من القرب و المنزلة، فسبحانه ما ارحمه و ارأفه على عباده حیث لم یبق من سبل النجاة و طرق الفوز الى الرحمة و الرضوان الا و قد هیأها لهم و الحمد للّه رب العالمین.
10) الآیة فی سورة المائدة، و ما قبلها قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَکَ ما یَکُونُ لِی أَنْ أَقُولَ ما لَیْسَ لِی بِحَقٍّ الى قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّیْتَنِی کُنْتَ أَنْتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُکَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ. فعلم ان المراد تعذیب الذین اتخذوا عیسى و امه الهین، فالمعنى ان تعذبهم على انهم اتخذوا عیسى و امه الهین فانه حقیق لک و ان کان العبد لا یجوز تعذیبه على سیئاته لغیر مولاه، و اما أنت فحقیق لک ان تعذبهم فإنهم عبادک، وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ما ارتکبوه من الذنب المذکور فأنت حقیق ایضا بذلک فَإِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ. فتبین ان مفاد الآیة جعل العبودیة سببا مصححا للتعذیب من حیث انه لا یجوز لغیر المولى تعذیب العبد على سیئاته، لا ان مجرد العبودیة سبب مصحح للتعذیب و لو من غیر صدور سیئة عن العبد.
11) المائدة: الآیة 116.