قال المصنّف رفع اللّه درجته
المطلب الخامس فی أنّه تعالى یرید الطاعات و یکره المعاصی (1)، هذا مذهب الامامیّة، قالوا: إنّ اللّه تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أولا، و لم یرد المعاصی سواء وقعت أولا، و لم یکره الطاعات سواء وقعت أولا، و خالفت الأشاعرة مقتضى العقل و النقل فی ذلک، فذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى یرید کلّ ما وقع فی الوجود سواء کان طاعة أولا، و سواء أمر به أولا، و کره کلّ ما لم یقع، سواء کان طاعة أولا، و سواء أمر به أو نهى عنه، فجعلوا کل المعاصی الواقعة فی الوجود من الشّرک و الظلم و الجور و العدوان و أنواع الشّرور مرادة للّه تعالى
و أنّه تعالى راض بها، و بعضهم قال: إنّه محبّ لها. و کلّ الطاعات التی لم تصدر عن الکفار، مکروهة للّه تعالى غیر مرید لها، و أنّه تعالى أمر بما لا یرید و نهى عمّا لا یکره، و أنّ الکافر فعل فی کفره ما هو مراد للّه تعالى، و ترک ما کرهه اللّه تعالى من الایمان و الطاعة منه، مقالة الاشاعرة تستلزم المحالات و هذا القول تلزم منه محالات: منها نسبة القبیح إلى اللّه تعالى لأنّ إرادة القبیح قبیحة، و کراهة الحسن قبیحة، و قد بیّنا أنّه تعالى منزه عن فعل القبائح کلّها «انتهى»
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة أنّ اللّه تعالى مرید لجمیع الکائنات غیر مرید لما لا یکون، فکلّ کائن مراد له، و ما لیس بکائن لیس بمراد، و اتفقوا على جواز إسنادا لکل إلیه تعالى جملة، و اختلفوا فی التفصیل کما هو مذکور فی موضعه، و مذهب المعتزلة و من تابعهم من الامامیة أنه تعالى مرید لجمیع أفعاله، و أمّا أفعال العباد فهو مرید للمأمور به منها کاره للمعاصی و الکفر، و دلیل الأشاعرة أنّه خالق للأشیاء کلها و خالق الشیء بلا إکراه مرید له بالضرورة، و أما ما استدل به هذا الرّجل فی عدم جواز إرادة اللّه تعالى للشرک و المعاصی فهو من استدلالات
المعتزلة؛ و الجواب أنّ الشرک مراد للّه تعالى بمعنى أنه أمر قدره اللّه تعالى فی الأزل للکافر لا أنّه رضی به، و أمر المشرک به، و هذا من باب التباس الرضا بالإرادة، و أمّا کون الطّاعات التی لم تصدر عن الکفّار مکروهة للّه تعالى، فإن أراد بالکراهة، عدم تعلّق الإرادة به فصحیح، لأنه لو أراد لوجد، و إن أراد عدم الرّضا به فهو باطل، لأنّه لم یحصل فی الوجود حتّى یتعلّق به الرّضا أو عدمه، و أمّا أنّه تعالى أمر بما لا یرید و نهى عما یکره، فإنّه تعالى أمر الکفّار بالإسلام، و لم یرد إسلامهم، بمعنى عدم تقدیر إسلامهم و هذا لا یعدّ من السّفه، و لا محذور فیه، و إنّما یکون سفها لو کان الغرض من الأمر منحصرا فی إیقاع المأمور به، و لکن هذا الانحصار ممنوع، لأنه ربّما کان لإتمام الحجّة علیهم، فلا یعد سفها، و أمّا ما ذکره: من لزوم نسبة القبیح إلى اللّه تعالى لأنّ إرادة القبیح قبیحة، فجوابه أن الإرادة بمعنى التقدیر و تقدیر خلق القبیح فی نظام العالم لیس بقبیح من الفاعل المختار، إذ لا قبیح بالنسبة إلیه، على أن هذا مبنی على القبح العقلیّ و هو ممنوع عندنا، و مع هذا فانّه مشترک الإلزام لأنّ خلق الخنزیر الذی هو القبیح یکون قبیحا، و اللّه تعالى خلقه بالاتّفاق منّا و منکم «انتهى»
أقول [القاضى نور اللّه]
لا یخفى أنّ صغرى ما ذکره من دلیل الأشاعرة ممنوعة، و إنّما اللّه سبحانه خالق ما یکون خیره غالبا على شرّه، و القبائح الصّادرة من الشّاهد لا یلیق صدورها منه سبحانه، و أمّا ما ذکره من الجواب فهو مبنیّ على ما اخترعه و اصطلحه من جعل الإرادة بمعنى التّقدیر، و قد سبق أنّه یمکن کونه قد تبع فی ذلک للنعمانیّة (2)
من طوائف الشّیعة، و کونه متوهما لاصطلاح أصحابه على ذلک من کلام شارح العقائد فتذکر، و أیضا إن أراد بالتّقدیر الخلق فهو أول البحث و النّزاع، لأنّا نمنع کون الشّرک و نحوه من القبائح المشاهدة فی الشّاهد صادرة عنه تعالى، و إن أراد التّبیین و الاعلام و الکتابة فی اللوح المحفوظ و نحو ذلک من معانی القدر فهو خارج عن محلّ النّزاع، کما عرفت فی بحث القضاء و القدر، و قد سبق أیضا أنّ الفرق بین الإرادة و الرّضا غیر مرضیّ، و اما ما ذکره بقوله و أمّا کون الطاعات التی لم تصدر عن اللّه تعالى مکروهة له تعالى فیظهر من تعقیبه إیّاه بالتّردید الآتی انّه فی زعمه شیء ذکره المصنف و هو افتراء بلا امتراء، لأنّ المصنّف لم یذکر أن الطاعات التی لم تصدر عن الکفّار مکروهة للّه تعالى، بل قال إنّه تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أولا، و أین هذا من ذاک؟
مع أن ذلک التردید مردود بأنّه یفهم من شقّه الثّانی أن تعلق الرّضا بالفعل فرع
وجوده و هو ظاهر البطلان، لأنّ من خطب امرأة فأجابته یقال إنّها رضیت بتزویجه إیّاها مع أنّه لم یحصل التزویج بعد، و اما ما ذکره بقوله فجوابه أنّ الإرادة بمعنى التقدیر، و تقدیر خلق القبیح فی نظام العالم «إلخ» فوهنه ظاهر، اما أولا فلما مرّ مرارا من أن الإرادة لم تجیء بمعنى التقدیر لغة و عرفا، و اما ثانیا فلأنّه إن أراد بقوله فی نظام العالم مجرّد جعله ظرفا لخلق القبیح أى خلق القبیح الواقع فی جملة مخلوقات العالم فهذا لغو من القول کما لا یخفى. و إن أراد به الاشعار إلى مدخلیّة خلق القبیح فی نظام العالم و تعلیل حسنه فی الجملة به فهو مخالف لمذهب الأشعری النافی لتعلیل الأفعال، و لقاعدة الأصلح بنظام الکل کما ذهب إلیه الحکماء و الامامیّة، و اما ثالثا فلأنّه لو تمّ ما ذکره آخرا بقوله إذ لا قبیح بالنسبة إلیه تعالى لتمّ المدّعى و لغى (خ ل لغیت) المقدمات السّابقة و لا یظهر وجه لتعلیل تلک المقدّمات بالعلة المذکورة کما لا یخفى، و بالجملة ظهر أنّ فی کلام الناصب خلط و خبط، و أنّه لا معنى للارادة عند الأشاعرة إلا ما مرّ من الصفة المخصصة و حینئذ نقول: إنّ إرادة القبیح قبیحة، لأنّ اللّه تعالى أوعد الکفار و الشیاطین بارادة القبیح کما أوعدهم بفعله فی قوله تعالى یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى قوله تعالى: وَ یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِیداً (3) الآیة، مع أنّ العقلاء یذمّون من نهى شخصا عن شیء و أتى بمثله لقولهم:
لا تنه عن خلق و تأتی مثله
عار علیک إذا فعلت عظیم
1) هذه المسألة مما وقع النزاع فیه، فذهب الاصحاب و أکثر المعتزلة الى أنه تعالى قد أراد الطاعات و أحبها و لم یکرهها، و أنه تعالى و تقدس کره المعاصی و القبائح و لم یرضها، و ذهب جل الاشاعرة و شرذمة من المعتزلة الى انه سبحانه یرید الکل طاعة کانت أو معصیة حسنا کان بحکم العقل أو قبیحا.و الحق الذی لا مریة فیه و لا ارتیاب ما اختاره الاصحاب لقیام الأدلة السمعیة و العقلیة على ذلک کما ستأتى الاشارة الى بعضها.و من التوالی الفاسدة المترتبة على مقالة الاشاعرة کما أفاده بعض المحققین من مشایخ مشایخنا کون العاصی مطیعا بعصیانه حیث أوجد مراده تعالى و فعل وفق مراده.و منها نسبة القبح الى ساحته المقدسة لان إرادة القبیح قبیحة، و قد مر أنه منزه عن القبائح.الى غیر ذلک مما یحکم بفساده العقل السلیم الخالی عن شوائب الأوهام و هواجس إبلیس، عصمنا اللّه من هذه المقالات.و للّه در مولانا الشریف الآیة الباهرة السید محمد الباقر الحجة الطباطبائى الحائرى من مشایخ والدی العلامة فی الروایة حیث یقول فی منظومته المسماة بمصباح الظلام فی علم الکلام:إرادة القبیح ممن امتنعمنه القبیح یستحیل ان یقعفکل ما یفعله عبیدهمن القبیح فهو لا یریدهو کیف لو اراده فالأمرو النهى لغو و هو أمر نکرفلا یرید غیر فعل الطاعةمن عبده عصاه أو أطاعهالى آخر ما افاده شکر اللّه مساعیه و حشره تحت لواء جده أمیر المؤمنین سلام اللّه علیه آمین آمین.
2) عدة انتسبوا الى محمد بن على بن النعمان ابى جعفر الأحول المشتهر بمؤمن الطاق البجلی الکوفی أورده شیخ الطائفة المحقة ابو جعفر الطوسی فی الفهرست (ص 131 ط نجف) و قال فی حقه ما حاصله: کان حسن الاعتقاد و الهدى، حاذقا فی صناعة الکلام، سریع الحاضر و الجواب، و له مع ابى حنیفة مناظرات منها لما مات الصادق «ع» قال ابو حنیفة له:قد مات امامک، قال: لکن امامک لا یموت الى یوم القیامة (یعنى إبلیس) و هو من اصحاب الصادق «ع» و قد لقى زید بن زین العابدین و ناظره على امامة ابى عبد اللّه (ع) و لقى زین العابدین و کان شاعرا، و له کتب منها کتاب الامامة و کتاب المعرفة و غیرهما.و ذکره فی لسان المیزان فی (ج 5 ص 300 ط حیدرآباد) و فی فهرست ابن الندیم (ص 8 ط مصر) أقول: و من تالیفه کتاب الرد على المعتزلة فی امامة المفضول و کتاب الجمل فی امر طلحه و الزبیر و کتاب اثبات الوصیة و کتاب افعل لم فعلت و کتاب افعل لا تفعل قال فیه ان کبار الفرق أربعة القدریة و الخوارج و العامة و الشیعة و عین الشیعة بالنجاة فی الآخرة من هذه الفرق کما نقله الشهرستانی فی الملل (ج 1 ص 314 ط مصر).ثم لا یذهب علیک ان النعمانیة نسبوا الى المترجم مقالات منکرة هو برئ منها کما یفصح عن ذلک کلمات الفطاحل من ارباب کتب التراجم من الفریقین و کفى فی ذلک نص أصحابنا کشیخ الطائفة (قده) و غیره على جلالته.
3) النساء. الآیة 60.