قال المصنّف رفع اللّه درجته
و قالت الإمامیّة: نحن نرضى بقضاء اللّه تعالى کلّه حلوه و مرّه لأنّه لا یقضی إلّا بالحقّ، و قالت الأشاعرة: لا نرضى بقضاء اللّه کلّه لأنّه قضى بالکفر و الفواحش و المعاصی و الظلم و جمیع أنواع الفساد.
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: تقول الأشاعرة نحن نرضى بقضاء اللّه تعالى کلّه، و الکفر و الفواحش و المعاصی و الظلم و جمیع أنواع الفساد لیست هی القضاء بل هی المقضیّات و الفرق بین القضاء و المقضی ظاهر، و ذلک لأنه لیس یلزم من وجوب الرّضا بالشّیء باعتبار صدوره عن فاعله وجوب الرّضا به باعتبار وقوعه صفة لشیء آخر، إذ لو صحّ ذلک لوجب الرّضاء بموت الأنبیاء و هو باطل إجماعا، و الإنکار المتوجّه نحو الکفر إنّما هو بالنّظر إلى المحلّیّة لا إلى الفاعلیّة، و للکفر نسبة إلى اللّه سبحانه باعتبار فاعلیته له و إیجاده إیّاه، و نسبة أخرى إلى العبد باعتبار محلّیته له و اتّصافه به، و إنکاره باعتبار النّسبة الثّانیة دون الاولى، ثمّ إنّهم قائلون: بأنّ التّمکین على الشّرور من اللّه تعالى، و التّمکین بالقبیح قبیح فیلزمهم ما یلزمون به الأصحاب «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
حاصل کلام الأشاعرة و ما ذکره النّاصب من الفرق بین القضا و المقضی (1) أنّ هاهنا أمرین: قضاء و هو فعل قائم بذات اللّه تعالى، و مقضیّ و هو
المفعول المنفصل عنه، فالقضاء کلّه خیر و عدل و حکمة فنرضى به کلّه، و المقضی قسمان منه ما یرضى به و منه ما لا یرضى به و فیه نظر، أما أولا فلانا لو سلّمنا أنّ القضاء غیر المقضی، لکنّ الرّضا بأحدهما یستلزم الرّضاء بالآخر، و أما ثانیا فلان ما قیل من أنّ الرّضا إنّما یجب بالقضاء لا بالمقضی، و الکفر مقضی لیس بمرضی، ضرورة أنّ القائل: رضیت بقضاء اللّه تعالى لا یرید أنّه رضی بصفة من صفات اللّه تعالى، بل یرید أنّه راض بمقتضى تلک الصّفة، و هو المقضی و لا ینفعهم الاعتذار بوجوب الرّضاء (2) به من حیث ذاته و کونه فعله تعالى، و عدم الرّضاء به من حیث المحلّیة و الکسب لبطلان الکسب على ما سیجیء إن شاء اللّه تعالى، و نقول هاهنا: إن کان کون الکفر کسبا بقضائه تعالى و قدره وجب الرّضاء به من حیث هو کسب و هو خلاف قولکم، و إن لم یکن بقضاء و قدر بطل استناد الکائنات بأجمعها إلى القضاء و القدر مع أنّ الحدیث النّبوی و هو
قوله صلى اللّه علیه و اله: الخیر فیما یقضى اللّه(3) یدل على أنّ الرّضاء بالمقضیّ من حیث ذاته واجب.
و أما ما
ورد من أنّه تعالى خالق الخیر و الشّر فأرید بالشّر ما لا یلایم الطبع،
و إن کان مشتملا على مصلحة، لا ما کان قبیحا خالیا عن المصالح، فإنّ الشّر یطلق على معنیین: أحدهما غیر الملائم للطبع کخلق الحیوانات الموذیة،
و الثانی ما یکون مستلزما للفساد کالسّرقة و اللّواطة و الرّدّة و أمثالها، و المنفی عن اللّه تعالى الشّر بالمعنى الثّانی دون الأوّل، و أما ثالثا فلأنّ ما ذکره من دعوى الإجماع على بطلان الرّضاء بموت الأنبیاء علیهم السلام أسخف من دعواه الإجماع على إمامة أبی بکر، نعم موت الأنبیاء علیهم الصّلاة و السّلام غیر ملائم لطباع أممهم من حیث حرمانهم عن سعادة إرشادهم و شرف صحبتهم، لا أنّهم لا یرضون بذلک و یعترضون به على اللّه تعالى کیف؟ و العاقل یعلم أنّ الأصلح بحال الأنبیاء علیهم السّلام خلاصهم من مضیق الدّنیا و وصولهم إلى لقاء ربّهم، و أیضا یمکن أن تکون حکمته تعالى مقتضیة لبعث نبیّ آخر، و یکون الأصلح بحال النّبی الثّانی عدم بقاء الأوّل إلى غیر ذلک من المصالح التی لا یهتدی إلیها العقل (4)، و أما رابعا فلأنّ ما ذکره من أنّ التمکین من القبیح قبیح (5)، مردود بأنّ القبیح هو التّمکین عن خصوص القبیح، لکنّه تعالى لم یمکّن المکلّفین عنه فقط، بل مکّنهم عن کلّ من الحسن و القبیح فأفاض علیهم الوجود و أعطاهم القدرة و الإرادة و خلق لهم آلات و فعل الألطاف و أرسل الرّسل و نصب الحجج و أنزل الشّرائع و
أقام البراهین لکلّ مکلّف فکانوا کلّهم على الشّرائط الموصلة لهم إلى الثّواب، فمن قبل منهم ما عرض له و جعله وصلة إلى الثّواب سعد من قبل نفسه، و من أبى فقد شقى من قبل نفسه، و ذلک یجری مجرى من او لم ولیمة و بسط بساطا و فتح الدّهلیز و أذن للنّاس فی الدّخول إذنا عامّا و أرسل رسله إلى کلّهم، فمن وصل منهم إلى مائدته استنفع و من لم یصل حرم ذلک من قبل نفسه لا من قبل صاحب الولیمة و الحمد للّه على نعمائه.
1) و أیضا الفرق بین القضاء و المقضى انما یصح على قول من جعل الفعل غیر المفعول، و اما من لم یفرق بینهما فکیف یصح هذا على أصله؟ قال ابن قیم فی شرح منازل السائرین: ان القاضی أبا بکر الباقلانی الأشعری أورد على نفسه هذا السؤال فقال: (فان قیل) فالقضاء عندکم هو المقضى أو غیره (قلنا) هو على ضربین فالقضاء بمعنى الخلق هو المقضى لان الخلق هو المخلوق، و القضاء الذی هو الإلزام و الاعلام و الکتابة غیر المقضى لان الأمر غیر المأمور و الخبر غیر المخبر عنه، و هذا الجواب لا یخلصه لان الکلام لیس فی الإلزام و الاعلام و الکتابة و انما الکلام فی نفس الفعل المقدر المعلم به المکتوب هل مقدره و کاتبه سبحانه راض به ام لا؟ و هل العبد مأمور بالرضا به ام لا و هذا حرف لمسألة (انتهى) منه «قده».
2) و قد یجاب (المجیب هو أبو الحسن) بانه قد تقرر فی مظانه ان اللفظ المشهور لا یجوز ان یکون موضوعا لمعنى خفى سیما فی خطاب اللّه تعالى و الرسول «ص» و ما تفهمه الأذهان من قضاء اللّه تعالى هو إرادته تعالى ظهور الحوادث على نهج خاص و الرضاء بالارادة لا ینفک عن الرضاء بالمراد، بل یکاد یکون عینه فلو کان الکفر بقضاء اللّه تعالى وجب الرضا به فتأمل منه «قده».
3) و فی الجامع الصغیر (الجزء الثانی ص 113 ط مصر) روایة تقرب منه معنى و هی: عجبت للمؤمن ان اللّه تعالى لم یقض له قضاء الا کان خیرا له.
4) اى عقولنا الناقصة.
5) بل نقول: هذه شبهة رکیکة کقول من یقول: التکلیف قبیح لأنه لو لا کلفه لما کفر، و خلق العالم قبیح لأنه لو لا خلق العالم لما کفر، و کذا لو لا أقدره لما کفر، و لو لا مکنه من المشتهى لما کفر، و نحو ذلک من الخرافات، و تحقیق الأمر فی ذلک ان توقف الشیء على الشیء ینقسم الى قسمین، فما کان المتوقف علیه مؤثرا فی المتوقف کان موجبا له کتوقف المعلول على العلة و المسبب على السبب، و ما کان غیر مؤثر فیه کتوقف الزوج على الفرد و الصورة على لمادة و نحوها لم یکن موجبا له و لا مرجحا، و توقف الکفر و سایر القبائح على الأقدار المتکین و التکلیف من قبیل القسم الثانی فلا یکون شیء منها مؤثرا فی الکفر و الایمان الطاعة و العصیان بل کل منها على اختیار العبد وجودا و عدما منه «قده».