إنّ أهمّ ما یحتاج الإنسان إلى التعرّف علیه لیکون ناجحاً فی الوصول إلى السعادة المطلوبة من حیاته أمران: المعرفة باللّه سبحانه، و التعرّف على مصالح الحیاة و مفاسدها، و المعرفة الکاملة فی هذین المجالین لا تحصل للإنسان إلّا فی ضوء الوحی و تعالیم الأنبیاء، و أمّا العلوم الإنسانیة فهی غیر کافیة فیهما.
و ممّا یوضح قصور العلم البشری فی العلوم الإلهیة أنّ هناک الملایین من البشر یقطنون بلدان جنوب شرق آسیا على مستوى راق فی الصناعات و العلوم الطبیعیة، و مع ذلک فهم فی الدرجة السّفلى فی المعارف الإلهیة، فجلّهم- إن لم یکن کلّهم- عبّاد للأصنام و الأوثان، و ببابک بلاد الهند الشاسعة و ما یعتقده مئات الملایین من أهلها من قداسة فی «البقر».
نعم هناک نوابغ من البشر عرفوا الحقّ عن طریق التفکّر و التعقّل کسقراط و أفلاطون و أرسطو، و لکنّهم أُناس استثنائیون، لا یعدّون معیاراً فی البحث، و کونهم عارفین بالتوحید لا یکون دلیلًا على مقدرة الآخرین علیه.
على أنّه من المحتمل جدّاً أن یکون وقوفهم على هذه المعارف فی ظلّ ما وصل إلیهم من التعالیم السماویة عن طریق رسله سبحانه و أنبیائه، قال صدر المتألّهین:
أساطین الحکمة المعتبرة عند الیونانیین خمسة: أنباذقلس و فیثاغورس و سقراط و أفلاطون و أرسطاطالیس قدس سره، و قد لقى فیثاغورس تلامیذ سلیمان بن داود علیهما السلام بمصر و استفاد منهم و تلمّذ للحکیم المعظم الربّانی أنباذقلس و هو أخذ عن لقمان الآخذ عن داود علیه السلام، ثمّ سقراط أخذ عن فیثاغورس و أفلاطون عن سقراط و الآخذ أرسطاطالیس عن أفلاطون و صحبه نیِّفاً و عشرین سنة … (1)
و ممّا یدلّ على قصور العلم الإنسانی عن تشخیص منافع البشر و المجتمعات و مضارّها، أنّ المجتمع الإنسانی- مع ما بلغه من الغرور العلمی- لم یقف بعدُ على النظام الاقتصادی النافع له، فطائفة تزعم أنّ سعادة البشر فی نظام الرأسمالیة و الاقتصاد الحرّ المطلق، و الأُخرى تدّعی أنّ سعادة البشر فی النظام الاشتراکی و سلب المالکیة عن أدوات الانتاج و تفویضها إلى الدولة الحاکمة.
کما أنّه لم یصل بعدُ إلى وفاق فی مجال الأخلاق و قد تعدّدت المناهج الأخلاقیّة فی العصر الأخیر إلى حدّ التضادّ فیها.
و أیضاً نرى أنّ الإنسان- مع ما یدّعیه من العلم و المعرفة- لم یدرک بعدُ عوامل السّعادة و الشّقاء له، بشهادة أنّه یشرب المسکرات، و یستعمل المخدّرات، و یتناول اللحوم الضارّة، کما یقیم اقتصاده على الرِّبا الّذی هو عامل إیجاد التفاوت الطبقی بین أبناء المجتمع.
و فیما روی عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام إشارات إلى هذا البرهان نأتی بنموذجین منها: قال الإمام الکاظم علیه السلام:
«یا هشام: ما بعث اللّه أنبیاءه و رسله إلى عباده إلّا لیعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، و أعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلًا، و أکملهم عقلًا أرفعهم درجة فی الدنیا و الآخرة» (2)
و قال الإمام الرضا علیه السلام:
«لم یکن بدّ من رسول بینه و بینهم معصوم یؤدّی إلیهم أمره و نهیه و أدبه، و یوقفهم على ما یکون به إحراز منافعهم و دفع مضارّهم إذ لم یکن فی خلقهم ما یعرفون به ما یحتاجون إلیه». (3)
1) الرسائل: 68- 69.
2) الکافی: ج 1، کتاب العقل و الجهل، الحدیث 12.
3) بحار الأنوار: 11 / 40.