إنّ برهان النظم متفرّع على قانون العلّیة، و أنّ کلّ حادثة فلها علّة محدثة لا محالة، و حینئذٍ یقع الکلام فی صفات تلک العلّة، فهل یجب أن تکون عالماً و قادراً و مختاراً أو لا یجب ذلک؟ و برهان النظم بصدد إثبات وجود هذه الصفات لعلّة الحوادث الکونیة و فاعلها، و هذا ما یرتئیه القرآن الکریم و الأحادیث الإسلامیة فی الدعوة إلى مطالعة الکون و التفکّر فی آیاته.
إنّ الوحی الإلهی قد أعطى برهان النظم اهتماماً بالغاً، و هناک آیات کثیرة من القرآن تدعو الإنسان إلى مطالعة الکون و ما فیه من النظم و الإتقان حتى یهتدی إلى وجود اللّه تعالى و علمه و حکمته.
نرى أنّ القرآن الکریم یلفت نظر الإنسان إلى السّیر فی الآفاق و الأنفس و یقول:
«سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (1)
و یقول: «قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (2)
و یقول: «إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْکِ الَّتِی تَجْرِی فِی الْبَحْرِ بِما یَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِیفِ الرِّیاحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ» (3)
و یقول: «أَ وَ لَمْ یَتَفَکَّرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ» (4)
و یقول ایضاً: «وَ فِی أَنْفُسِکُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ» (5)
و قال علی علیه السلام: «أ لا ینظرون إلى صغیر ما خلق؟ کیف أحکم خلقه و أتقن ترکیبه، و فلق له السّمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر، انظروا إلى النّملة فی صغر جثّتها و لطافة هیئتها لا تکاد تنال بلحظ البصر و لا بمستدرک الفکر، کیف دبّت على أرضها و صبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها و تعدّها فی مستقرها، تجمع فی حرِّها لبردها و فی ورْدِها لصَدَرها (6) … فالویل لمن أنکر المقدِّر و جحد المدبِّر …» (7)
و قال الامام الصادق علیه السلام فی ما أملاه على تلمیذه المفضّل بن عمر:
«أوّل العبر و الأدلّة على الباری جلّ قدسه، تهیئة هذا العالم و تألیف أجزائه و نظمها على ما هی علیه، فإنّک إذا تأمّلت بفکرک و میّزته بعقلک وجدته کالبیت المبنیّ المعدّ فیه جمیع ما یحتاج إلیه عباده، فالسّماء مرفوعة کالسّقف، و الأرض ممدودة کالبساط، و النجوم مضیئة کالمصابیح، و الجواهر مخزونة کالذخائر، و کلّ شیء فیه لشأنه معدّ، و الإنسان کالمملَّک ذلک البیت، و المُخَوَّل جمیع ما فیه، و ضروب النبات مهیئة لمآربه، و صنوف الحیوان مصروفة فی مصالحه و منافعه.
ففی هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدیر و حکمة و نظام و ملاءمة، و انّ الخالق له واحد، و هو الّذی ألّفه و نظّمه بعضاً إلى بعض جلّ قدسه و تعالى جدّه». (8)
1) فصلت: 53.
2) یونس: 101.
3) البقرة: 164.
4) الروم: 8.
5) الذاریات: 21.
6) الصَّدَر بالتحریک (على زنة الخبر) رجوع المسافر من مقصده، أی تجمع فی أیّام التمکّن من الحرکة لأیّام العجز عنها.
7) نهج البلاغة، الخطبة 185، هذا و للإمام علیه السلام وصف رائع لخلقة النحل و الخفّاش و الطاووس یستدل به على وجود الخالق و قدرته و علمه.
8) بحار الأنوار: 3 / 62.