قال المصنّف رفع اللّه درجته
المسألة الثانیة فی النّظر و فیه مباحث الاول أنّ النّظر الصّحیح یستلزم العلم، الضّرورة قاضیة بأنّ کلّ من عرف أنّ الواحد نصف الإثنین و أنّ الإثنین نصف الأربعة، فإنّه یعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة، و هذا الحکم لا یمکن الشّکّ فیه، و لا یجوز تخلّفه عن المقدّمتین السّابقتین، و أنّه لا یحصل من تینک المقدّمتین السّابقتین أنّ العالم حادث، و لا أنّ النّفس جوهر، و أنّ الحاصل أوّلا اولى من حصول هذین، و خالفت الأشاعرة کافّة العقلاء فی ذلک، فلم یوجبوا حصول العلم عند حصول المقدّمتین، و جعلوا حصول العلم عقیب المقدّمتین اتّفاقیّا یمکن أن یحصل و أن لا یحصل، و لا فرق بین حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة عقیب قولنا: الواحد نصف الإثنین، و الاثنان نصف الأربعة، و بین حصول العلم بأنّ العالم محدث أو أنّ النّفس جوهر، أو أنّ الإنسان حیوان أو أنّ العدل حسن، عقیب قولنا: الواحد نصف الإثنین، و الاثنان نصف الأربعة، و بین حصول العلم بأنّ العالم محدث أو أنّ النّفس جوهر، أو أنّ الإنسان حیوان أو أنّ العدل حسن، عقیب قولنا: الواحد نصف الإثنین، و الاثنان نصف الأربعة، و أىّ عاقل یرضى لنفسه
إعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الإثنین و الاثنان نصف الأربعة، یحصل له علم أنّ العالم محدث، و أنّ من علم أنّ العالم متغیّر، و أنّ کلّ متغیر محدث، یحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة؟، و أنّ زیدا یأکل و لا یحصل له العلم بأنّ العالم محدث، و هل هذا إلا عین السّفسطة «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول: مذهب الشّیخ أبی الحسن (1) الأشعری أن حصول العلم الذی هو النّتیجة عقیب النّظر الصّحیح بالعادة، و إنّما ذهب إلى ذلک بناء على أنّ جمیع الممکنات مستندة عنده إلى اللّه سبحانه ابتداء، أى بلا واسطة، و على أنّه تعالى قادر مختار، فلا یجب عنه صدور شیء منها، و لا یجب علیه و لا علاقة بوجه بین الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقیب بعض کالإحراق عقیب مماسّة النّار و الرّیّ بعد شرب الماء، فلیس للمماسّة و الشّرب مدخل فی وجود الإحراق و الرّیّ، بل الکلّ واقعة بقدرته و اختیاره تعالى، فله أن یوجد المماسّة بدون الإحراق، و أن یوجد الإحراق بدون المماسّة، و کذا الحال فی سائر الأفعال، و إذا تکرّر صدور الفعل منه و کان دائما أو أکثریّا، یقال: إنّه فعله بإجراء العادة، و إذا لم یتکرّر أو تکرّر قلیلا فهو خارق العادة أو نادر، و لا شکّ أنّ العلم بعد النّظر ممکن حادث محتاج إلى المؤثّر، و لا مؤثّر إلا اللّه، فهو فعله الصّادر عنه بلا وجوب منه، و لا علیه، و هو دائم أو أکثرىّ فیکون عادیّا، هذا مذهب الأشاعرة فی هذه المسألة، و قد بیّنا فیما سبق، أنّ المراد من العادة ما ذا؟ فالخصم إمّا أن یقول: إنّ استلزام النّظر الصحیح
للعلم واجب و تخلّفه عنه محال عقلا فهذا باطل، لإمکان عدم التّفطن للنّتیجة مع حصول جمیع الشّرائط عقلا، فلا یکون التخلّف محالا عقلا، و إن أراد الوجوب عادة بمعنى استحالة التخلّف عادة و إن جاز عقلا، فهذا عین مذهب الأشاعرة کما بینّا و أما قوله: إنّ الأشاعرة جعلوا حصول العلم عقیب المقدّمتین اتّفاقیّا، فافتراء محض، لأنّ من قال: بالاستلزام عادة على حسب ما ذکرناه من مراده، لم یکن قائلا بکونه اتّفاقیا، کما صوّره هو فی الأمثلة على شاکلة طاماته و ترهاته و کانّه لم یفرّق بین اللّزوم العادی و کون الشّیء اتّفاقیّا (2) أو یفرّق و لکن یتعامى لیتیسّر له التشنیع و التنفیر و اللّه أعلم «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
فیه نظر ظاهر، أما أولا فلأنّ ما فرّعه على کونه تعالى قادرا مختارا من عدم وجوب صدور شیء، و لا وجوب شیء علیه مردود، بأنّه لا یلزم من کون الشیء قادرا مختارا أن لا یجب علیه شیء کما قالوا: إنّ الوجوب بالاختیار عین الإختیار، فانّهم قالوا: إنّه یجب صدور الأشیاء عن اللّه تعالى على مقتضى علمه و یمتنع عدم صدورها مع أنّه لا ینافی الإختیار، و اما ثانیا فلأنّ ما ذکره: من أنّ الخصم إمّا أن یقول: کذا، و إمّا أن یرید: کذا، مدفوع بأن الخصم لا یقول و لا یرید شیئا من ذلک، بل یدّعى البداهة هنا لک مع تجشّم الأشعری تلفیق ألف تردید و تشکیک مثل ذلک، و یقول: إنّ بدیهة العقل حاکمة بأنّ تخلّف النّتیجة عن النّظر الصّحیح المستجمع للشّرائط محال عقلا، و المنکر مکابر لا یستحقّ الجواب، و قد سبق ما یوضح هذا فی أوائل الکتاب، و اما ثالثا فلأنّ ما ذکره من أنّ نسبة الأشاعرة إلى جعلهم حصول العلم عقیب المقدّمتین اتّفاقیّا افتراء محض
غلط محض، (3) و ما ذکره فی بیان ذلک تلبیس بحت (4) فإنّ القضیّة الاتّفاقیّة فی مقابلة اللّزومیة التی حکم فیها بلزوم أحد الطرفین للآخر لعلاقة بینهما من العلاقات المقرّرة فی محلّه، و اللّزوم العادی لیس من العلاقات المعتبرة فی القضیّة اللّزومیّة المقتضیة لعدم التّخلّف عقلا، بل قد اعترف هذا النّاصب هاهنا فی بیان مذهب شیخه:
بأنه لا علاقة بوجه بین الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة، فتکون مصاحبة أمرین عادة مساوقة لوقوعهما اتّفاقا، کما أشار إلیه المصنّف قدّس سرّه، بل إطلاق اللّزوم على ذلک مجاز من قبیل إطلاقه على اللّزوم العرفی الذی اعتبره أهل العربیّة فی الدّلالة الالتزامیّة، و من القضایا الاتّفاقیّة أن هذا النّاصب حاول ببیان الفرق رفع التّشنیع عن أصحابه، فانعکست القضیّة، بل زیدت نغمة فی طنبور (5) البلیّة زادهم اللّه مرضا، و جعلهم لسهام البلایا غرضا (6) بحق النّبیّ الأمین و عترته المعصومین.
1) قد مرت ترجمته على سبیل الاختصار. فلیراجع و من رام الوقوف على مقالاته فی الأصول الاعتقادیة فلیراجع کتابه المسمى بالابانة فانه یجد ضالته المنشودة فیه.
2) لا یخفى على من نظر الى کلام مولانا العلامة ظهر له ان مراده «قده» من الاتفاق عدم الترتب القهرى لا الاتفاقیة المقابلة للزوم العادی کما لا یخفى.
3) خبر قوله فلان.
4) البحت: الخالص.
5) الطنبور: بضم الطاء المهملة و سکون النون من آلات اللهو.
6) الغرض: الهدف.