فلزمهم من ذلک محالات،
منها امتناع الجزم بصدق الأنبیاء
قال المصنّف رفع اللّه درجته
لأنّ مسیلمة الکذّاب (1) لا فعل له، بل القبیح الذی صدر عنه من اللّه تعالى عندهم، فجاز أن یکون جمیع الأنبیاء کذلک، و إنّما یعلم صدقهم لو علمنا أنه تعالى لا یصدر عنه القبیح، فلا نعلم حینئذ نبوّة محمّد نبیّنا صلى اللّه علیه و اله و لا نبوّة موسى و عیسى و غیرهما من الأنبیاء البتة، فأىّ عاقل یرضى أن یقلّد من لم یجزم بصدق نبی من الأنبیاء البتّة؟ و أنه لا فرق عنده بین نبوّة محمّد صلى اللّه علیه و اله و بین نبوّة مسیلمة الکذّاب، فلیحذر العاقل من اتّباع أهل الأهواء و الانقیاد إلى طاعتهم لیبلغهم مرادهم و یربح (2) هو
الخسران بالخلود فی النّیران، و لا ینفعه عذره غدا فی یوم الحساب «انتهى».
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: قد مرّ مرارا أنّ صدق الأنبیاء مجزوم به جزما مأخوذا من المعجزة، و عدم جریان عادة اللّه تعالى على إجراء المعجزة على ید الکذّابین، و أنه یجری مجرى المحال العادی، فنحن نجزم أنّ مسیلمة کذّاب لعدم المعجزة، و نجزم أنّ اللّه تعالى لم یظهر المعجزة على ید الکذّاب، و یفیدنا هذا الجزم العلم العادی، فالفرق بینه و بین الأنبیاء ظاهر مستند إلى العلم العادی، لا إلى القبح العقلیّ الذی یدّعیه.
و ما ذکره من الطامّات و التّنفیر فهو الجری على عادته فی المزخرفات و التّرهات «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
قد مرّ منّا أیضا مرارا أنّ قاعدة جریان العادة مهدومة عن أسّها (3)، و مع ذلک لا یجب جریانها، و لهذا یتعقّبها الخارق من المعجزات و غیرها، فتجویز وقوع الخرق و التخلّف فیها سیّما مع ضمّ العلم بجواز صدور القبیح عن اللّه تعالى یمنع الجزم بصدق الأنبیاء کما لا یخفى، و بالجملة أنّهم لا ینکرون أنّه یجوز على اللّه تعالى فعل ما هو قبیح فی الشّاهد، و لا یقبح بالنّسبة إلیه، فلیجز أن یظهر المعجزة على ید الکاذب و لا یقبح بالنّسبة إلیه، و بعبارة أخرى إذا صحّ أنّ اللّه تعالى یفعل القبائح و لا یقبح منه، فلم لا یجوز أن ینصب الأدلة من المعجزات و غیرها على الباطل؟ و یکون الحقّ عکس ما تقتضیه الأدلة فلا تحصل الثقة بأنّ النّبیّ الذی أظهر دلالة المعجزة صادق، و کذا لا تحصل الثقة بأنّ ما علیه المسلمون
من الأدلة حقّ، و یقال لهم ألیس قد ثبت أنّ مسیلمة الکذّاب ادّعى النّبوّة، و قال له أصحابه: صدقت فی أنّک نبیّ، ألیس کلامهم هذا تصدیقا له؟ فلا بدّ من «بلى» فیقال: إذا کان هذا التّصدیق من فعل اللّه تعالى و قد صدّقه، فلم لا یقولون بصدقه؟ و ما الفرق بینه و بین من یدّعی النّبوة فتنطق الأشجار و الأحجار بصدقه، بأن یفعل اللّه فیه ذلک التّصدیق؟ فإن قالوا:
إنّ محمّدا صلى اللّه علیه و اله قال: لا نبیّ بعدی(4)، قیل لهم: ما أنکرتم أن یکون هذا من جملة الأکاذیب التی یفعلها اللّه فی العباد و لا یقبح بالنّسبة إلیه، و حینئذ لم یکن محمّد صلى اللّه علیه و اله أولى بالتّصدیق من مسیلمة، و قد صدّقهما اللّه على حدّ واحد.
1) هو مسیلمة المتنبی الذی خرج فی نجد و ادعى النبوة و له أقاصیص مضحکة مع المرأة المدعیة للنبوة مذکورة فی کتب المجون و الحکایات الظریفة الطریفة.
2) اى فلیحذر العاقل أن یصیر سببا لنیل أهل الأهواء بمرادهم، و هو یصیر خاسرا بالخلود فی النیران.
3) الاس من المثلثات: اصل الشیء.
4) رواه ابن حجر فی مجمع الزوائد (الجزء 8 ص 263 ط مصر) عن ابى أمامة الباهلی، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه علیه و سلم یقول فی خطبة عام حجة الوداع: ایها الناس انه لا نبى بعدی و لا أمة بعدکم فذکر الحدیث.فی صحیح مسلم (الجزء 7 ص 120 ط مصر) بسنده المنتهى الى عامر بن سعد بن ابى وقاص عن أبیه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و سلم لعلى: أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدی، و روایة أخرى عن سعد بن ابى وقاص، قال: خلف رسول اللّه صلى اللّه علیه و سلم على بن أبی طالب فی غزوة تبوک، فقال یا رسول اللّه تخلفنی فی النساء و الصبیان فقال أما ترضى أن تکون منى بمنزلة هارون من موسى غیر انه لا نبى بعدی و هذا الحدیث الشریف مروى فی کتب القوم بعدة أسانید فی صحاحهم و کتاب الخصائص للنسائى و کفایة الطالب و منتهى السؤالو غیرها، و روى هذا المضمون بعبارات أخر.