إنّ هناک رجالًا من الأشاعرة أدرکوا جفاف النظریّة و عدم کونها طریقاً صحیحاً لحلّ معضلة الجبر، فنقضوا ما أبرموه و أجهروا بالحقیقة، نخصّ بالذکر منهم رجالًا ثلاثة:
الأوّل: إمام الحرمین، فقد اعترف بنظام الأسباب و المسبّبات الکونیة أوّلًا، و انتهائها إلى اللّه سبحانه و أنّه خالق للأسباب و مسبباتها المستغنی على
الإطلاق ثانیاً، و أنّ لقدرة العباد تأثیراً فی أفعالهم، و أنّ قدرتهم تنتهی إلى قدرته سبحانه ثالثاً. (1)
الثانی: الشیخ عبد الوهّاب الشعرانی، و هو من أقطاب الحدیث و الکلام فی القرن العاشر، فقد وافق إمام الحرمین فی هذا المجال و قال:
من زعم أنّه لا عمل للعبد فقد عاند، فإنّ القدرة الحادثة، إذا لم یکن لها أثر فوجودها و عدمها سواء، و من زعم أنّه مستبد بالعمل فقد أشرک، فلا بدّ أنّه مضطرّ على الاختیار. (2)
الثالث: الشیخ محمد عبده، فقال فی کلام طویل:
منهم القائل بسلطة العبد على جمیع أفعاله و استقلاله المطلق (یرید المعتزلة) و هو غرور ظاهر و منهم من قال بالجبر و صرَّح به (یرید الجبریة الخالصة) و منهم من قال به و تبرّأ من اسمه (یرید الأشاعرة) و هو هدم للشریعة و محو للتکالیف، و إبطال لحکم العقل البدیهی، و هو عماد الایمان.
و دعوى أن الاعتقاد بکسب العبد (3) لأفعاله یؤدّی إلى الإشراک باللّه- و هو الظلم العظیم- دعوى من لم یلتفت إلى معنى
الإشراک على ما جاء به الکتاب و السنّة، فالإشراک اعتقاد أنّ لغیر اللّه أثراً فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة، و أنّ لشیء من الأشیاء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقین …» (4)
1) لاحظ: نص کلامه فی الملل و النحل: 1 / 98- 99 و هو بشکل أدق خیرة الحکماء و الإمامیة جمعاء.
2) الیواقیت و الجواهر فی بیان عقیدة الأکابر: 139- 141.
3) یرید من الکسب، الإیجاد و الخلق لا الکسب المصطلح عند الأشاعرة، کما هو واضح لمن لاحظ کلامه.
4) رسالة التوحید: 59- 62.