قال المصنّف رفع اللّه درجته
و هو باطل لوجوه الوجه الاول أنّهم أنکروا ما علم کلّ عاقل من حسن الصّدق النّافع و قبح الکذب الضّارّ سواء کان هناک شرع أولا، و منکر الحکم الضّروری سوفسطائی.
قال النّاصب خفضه اللّه
أقول: جوابه أنّ حسن الصّدق النّافع و قبح الکذب الضّار، إن أرید بهما صفة الکمال و النّقص أو المصلحة و المفسدة، فلا شک أنّهما عقلیّان کما سبق، و إن أرید بهما تعلّق المدح و الثّواب أو الذّم و العقاب، فلا نسلّم أنّه ضروریّ، بل هو متوقّف على إعلام الشّرع، و کیف یدرک تعلّق الثّواب و هو من اللّه تعالى إلّا بالشّرع و الاعلام من الشّارع «انتهى».
أقول: [القاضى نور اللّه]
قد توارد بعض الفضلاء المعاصرین فی حاشیته على شرح اصول ابن الحاجب بهذا الجواب ظنّا منه أنّه وجد تمرة الغراب (1) حیث قال: إنّ الحکم بأنّا نعلم بالضّرورة أو بالنّظر أنّ الصّدق النّافع و الکذب الضارّ یترتب علیهما الثّواب أو العقاب فی العقبى بعید، لأنّ العقل لا یستقلّ فی أمر الآخرة «انتهى»، و قد دفعناه (2) قبل ذلک فی تعلیقاتنا على ذلک الشّرح: بأنّ الاستبعاد إنّما یتوجّه لو أرید الثّواب و العقاب بخصوصیاتهما المعلومة من عرف الشّرع، ککون الثّواب عطیّة یستحقها العبد من اللّه تعالى دائما فی دار الآخرة، و أمّا إذا أرید به العطاء (3)
الذی یستحقه العبد من اللّه تعالى فلا، إذ بدیهة العقل حاکمة بأنّ العبد المطیع الفاعل لما یوجب المدح یستحقّ العطاء من المولى الجواد الحکیم کما أشرنا إلیه سابقا، و بعبارة أخرى نقول: إنّ العقل حاکم قطعا بأنّ من فعل ما یوافق أمر مولاه الجواد الحکیم یجزیه خیرا و من خالفه یجزیه شرّا، فان أراد هذا الفاضل أنّ العقل لا یحکم بهذا المجمل فهو مکابرة ظاهرة، و أن أراد أنه لا یحکم على ذلک مع خصوصیّات کون الثّواب بالتخلید فی الجنّة و نیل الحور و القصور و کون العقاب بالنّار و الحیات و نحو ذلک فی الآجل، قلنا: إنّا لا ندعی حکم العقل بهذه الخصوصیات، غایة الأمر أنّه قد یقع التّقیید بذلک فی بعض العبارات (4) لکونها من لوازم ذلک المجمل اتفاقا من الفریقین، و إن علم ذلک من الشّرع فقط و نظیر أوردناه هاهنا ما وقع عن العلّامة الدّوانی فی بحث الوجود من حاشیته القدیمة عند الکلام على قول شارح الجدید للتّجرید. و ما قیل: من أنّ صحة الحکم مطابقته لما فی العقل الفعّال، فانّ صور جمیع الکائنات و أحکام الموجودات و المعدومات بأسرها مرتسمة فیه باطل قطعا، لأنّ کلّ واحد من العقلاء یعرف أنّ قولنا: اجتماع النّقیضین محال صدق و حقّ، مع أنّه لم یتصوّر العقل الفعّال أصلا، فضلا عن إعتقاد ثبوته و ارتسام صور الکائنات فیه، مع أنّه ینکر ثبوته على ما هو
رأى المتکلمین صور الکائنات فیه «انتهى» حیث أورد علیه أولا نقضا إجمالیّا فقال:
هذا الکلام من قبیل أن یقال: کون المشار إلیه «بأنا» (5) جوهرا مجردا باطل، لأنّ کلّ واحد من العقلاء یشیر إلیه «بأنا» مع أنّه لم یتصوّر الجوهر المجرد أصلا، بل مع أنّه ینکر ثبوته على ما هو رأى المتکلمین أو یقال: کون الزّمان مقدارا لحرکة الفلک باطل، لأنّ کلّ أحد یقسّم الزّمان إلى أجزائه مع عدم تصوّره مقدار حرکة الفلک إلى غیر ذلک من النظائر التی لا یخفى شیء منها على من خاض فی تیار (6) بحار الحکمة، ثمّ ذکر حلّه و تفصیله فقال: للمستدلّ أن یمنع عدم تصوّر کلّ واحد من العقلاء العقل أصلا، و یقول: بل تصوّر العقل (یتصوّر خ ل) بهذا الوجه، و هو أنّه الواقع و نفس الأمر و مطابق الصّوادق و إن لم یتصوّر بخصوصیّة کونه عقلا و محلا لارتسام صور الکائنات، ثم یدلّ البرهان على أنّ المتصور بهذا الوجه هو العقل المتّصف بتلک الصّفات، کما فی إثبات النّفس و الزّمان و غیرهما من المطالب الحکمیّة التی لا یخفى على من ذاق الحکمة «انتهى» و من العجب أنّ هذا الفاضل المعاصر مع طول ملازمته و مدارسته لذلک الشّرح و الحاشیة قد غفل عن جریان نظیر ذلک النّقض و الحلّ فیما نحن فیه، و أعجب من ذلک أنّ هذا الفاضل أنکر هاهنا استقلال العقل فی أمر الآخرة مطلقا، و سلم استقلاله فی بعض أحوال
المعاد فی أوائل حاشیته على الشّرح الجدید للتّجرید.
1) هذا مثل معروف عند العرب یضرب به فی حق من أتى بشیء خسیس زاعما أنه أغلى و اثمن ما یوجد.
2) هذا الدفع اختیار للشق الثانی من جواب الناصب، و انما لم یتعرض للدفع باختیار الشق الاول أیضا اعتمادا على ظهور ذلک بما ذکرناه قریبا من اثبات الاستلزام بین معانی الحسن و القبح.
3) و یؤید أن اصل معنى الثواب ما ذکرناه، ما ذکره المصنف رفع اللّه درجته فی شرح الیاقوت (اسمه انوار الملکوت) من ان الثواب عبارة عن النفع المقارن للتعظیم و الإجلال و أیضا یؤیده تعبیر الحکماء المثبتین للمعاد الروحانی عن جزاء الاعمال بالثواب و العقاب أیضا، کما صرح به المحقق الطوسی «ره» فی قواعد العقائد حیث قال: المسألة الرابعة فی الثواب و العقاب و هما اما بدنیان کاللذات الجسمانیة، و اما نفسیان کالتعظیم و الإجلال، و کالخزى و الهوان و تفصیلهما لا یعلم الا بالشرع. و قال فی موضع آخر: و أما القائلون بالثواب و العقاب النفسانیین قالوا: النفوس باقیة أبدا، فان کانت مدرکة لذاتها اللذات الباقیة معتقدة بما یجب علیها ان تعتقدها متخلقة بالأخلاق الفاضلة و الاعمال الصالحة منقطعة العلاقة عن الأشیاء الفانیة و کان جمیع ذلک ملکة راسخة فیها، کانت من أهل الثواب الدائم، و ان کانت عدیمة الإدراک للذات الباقیة معتقدة لما لا یکون مطابقا لنفس الأمر مائلة الى اللذات البدنیة منغمسة فی الأمور الدنیویة الفانیة متخلقة بالأخلاق الفاسدة و کان ذلک ملکة راسخة فیها، کانت من أهل العقاب الدائم لفقدان ما ینبغی لها و وجود ما لا ینبغی معها دائما، و بین المرتبتین مراتب لا نهایة لها بعضها أمیل الى السعادة و بعضها أمیل الى الشقاوة و ان کانت الخیرات و الشرور غیر متمکنة منها تمکن الملکات بل کانت إلخ. منه «قده».
4) إشارة الى أن بعض التعریفات الذی حکموا بکونه محل النزاع خال عن اعتبار خصوصیات أخر کقولهم: الحسن ما لا حرج فی فعله و القبیح ما فیه حرج. منه «قده».
5) أقول: حارت الألباب فی تعیین المراد بلفظة (أنا) إذ ما من معنى الا و تصح إضافته الى تلک الکلمة، فحملها المشهور على الجوهر المجرد.و بعضهم على الروح، و آخر على النفس، و آخر على العقل، و آخر على البدن، و آخر على مجموع الروح و البدن، و آخر على الروح و البدن اللطیف المثالی الى غیر ذلک من المحتملات.و غایة ما جعلوه تحقیقا فی المقام هو ان یراد فی کل إضافة من لفظة (أنا) کل ما هو غیر المضاف.
6) التیار: موج البحر الهائج.