إنّ القول بالمعاد الجسمانی و الروحانی معاً یتوقّف على أمور:
أ. الاعتقاد بتجرّد الروح الإنسانی.
ب. الاعتقاد بأنّ الروح یعود إلى البدن عند الحشر.
ج. إنّ هناک آلاماً و لذائذ جزئیة و کلیة، جسمانیة و روحانیة.
إنّ من أمعن النظر فی الآیات الواردة حول المعاد یقف على أنّ المعاد الّذی یصرُّ علیه القرآن هو عود البدن الّذی کان الإنسان یعیش به فی الدنیا و تعلّق الروح إلیه مرّة أخرى و لا یکتفی بحیاة الروح فی عالم الآخرة، کما أنّه لا یخصّ الثواب و العقاب بالجسمانیة منهما بل یثبت أیضاً ثواباً و عقاباً روحانیّین غیر حسیّین، و إلیک فیما یلی نماذج من عناوین الآیات فی هذین المجالین:
1. ما ورد فی قصّة إبراهیم، و إحیاء عزیر، و بقرة بنی إسرائیل، و نحو ذلک. (1)
2. ما یصرّح على أنّ الإنسان خلق من الأرض و إلیها یعاد و منها یخرج. (2)
3. ما یدلّ على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث و القبور. (3)
4. ما یدلّ على شهادة الأعضاء یوم القیامة. (4)
5. ما یدلّ على تبدیل الجلود بعد نضجها و تقطع الأمعاء. (5)
هذا کلّه بالنسبة إلى الملاک الأوّل، و أمّا بالنسبة إلى الملاک الثانی، فالآیات الراجعة إلى الآلام و اللّذائذ الحسّیة أکثر من أن تحصى و یکفى نموذجاً لذلک فی سورتی الواقعة و الرحمن. فلنقتصر بالإشارة إلى نماذج من الآیات الناظرة إلى الآلام و اللّذائذ العقلیة:
1. قال سبحانه: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ مَساکِنَ طَیِّبَةً فِی جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَکْبَرُ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ» (6) ترى أنّه سبحانه یجعل رضوان اللّه فی
مقابل سائر اللّذات الجسمانیة و یصفه بکونه أکبر من الأُولى و أنّه هو الفوز العظیم، و من المعلوم أنّ هذا النوع من اللّذة لا یرجع إلى الجسم و البدن، بل هی لذَّة تدرک بالعقل و الروح فی درجتها القصوى.
2. یقول سبحانه: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِینَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْکُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها هِیَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِیمٌ» (7) یظهر عظم هذا الألم بوقوع هذه الآیة قبل آیة الرضوان، فکأنَّ الآیتین تعربان عن اللَّذات و الآلام العقلیة الّتی تدرکها الروح بلا حاجة إلى الجسم و البدن.
3. یقول سبحانه فی وصف أصحاب الجحیم: «کَذلِکَ یُرِیهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَیْهِمْ» (8) إنّ عذاب الحسرة أشدّ على النفس ممّا یحلّ بها من عذاب البدن، و لأجل ذلک یسمّى یوم القیامة، یوم الحسرة، قال سبحانه: «وَ أَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الْحَسْرَةِ» (9)
نختم الکلام بما أفاده المحقّق الطوسی فی المقام حیث قال:
«أمّا الأنبیاء المتقدّمون على محمّد صلى الله علیه و آله فالظاهر من کلام أُممهم أنّ موسى علیه السلام لم یذکر المعاد البدنی، و لا أنزل علیه فی التوراة لکن جاء ذلک فی کتب الأنبیاء الّذین جاءوا بعده، کحزقیل و أشعیا علیهما السلام و لذلک أقرّ الیهود به، و أمّا فی الإنجیل فقد ذکر: أنّ الأخیار یصیرون کالملائکة و تکون لهم الحیاة الأبدیة،
و السعادة العظیمة، و الأظهر أنّ المذکور فیه المعاد الروحانی.
و أمّا القرآن فقد جاء فیه کلاهما: أمّا الروحانی ففی مثل قوله عزّ من قائل: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِیَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْیُنٍ» و «لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِیادَةٌ» و «وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَکْبَرُ»
و أمّا الجسمانی فقد جاء أکثر من أن یعدّ، و أکثره ممّا لا یقبل التأویل، مثل قوله عزّ من قائل:
«قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ – قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» «فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ یَنْسِلُونَ».
«وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ کَیْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَکْسُوها لَحْماً».
«أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ – بَلى قادِرِینَ عَلى أَنْ نُسَوِّیَ بَنانَهُ».
«وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَیْنا».
ثمّ إنّه ردّ نظریة التأویل فی آیات المعاد الجسمانی قیاساً بالآیات الواردة فی الصفات الدالّة بظاهرها على التشبیه و قال:
أمّا القیاس على التشبیه فغیر صحیح، لأنّ التشبیه مخالف للدلیل العقلی الدالّ على امتناعه، فوجب فیه الرجوع إلى التأویل، و أمّا المعاد البدنی فلم یقم دلیل، لا عقلی و لا نقلی
على امتناعه، فوجب إجراء النصوص الواردة فیه على مقتضى ظواهرها. (10)
1) البقرة: 68- 73، 243، 259- 260.
2) الأعراف: 25؛ طه: 55؛ الروم: 25؛ نوح: 18.
3) الحج: 7؛ یس: 51؛ القمر: 7؛ المعارج: 43.
4) النور: 24؛ یس: 65؛ فصلت: 41.
5) النساء: 56؛ محمّد: 15.
6) التوبة: 72.
7) التوبة: 68.
8) البقرة: 167.
9) مریم: 39.
10) تلخیص المحصل: 393- 394.