الإحباط فی اللّغة بمعنى الإبطال، یقال: أحبط عمل الکافر أی أبطله. و التکفیر بمعنى التغطیة، یقال: للزارع کافر، لأنّه یغطّی الحَبّ بتراب الأرض، قال اللّه تعالى: «کَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْکُفَّارَ نَباتُهُ» (1)
و الکفر ضدّ الإیمان، سمّی بذلک لأنّه تغطیة الحقّ. (2)
و المراد من الحبط فی اصطلاح المتکلّمین هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصیة المتأخّرة، کما أنّ المراد من التکفیر هو سقوط الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة.
و اختلف المتکلّمون هنا، فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط و التکفیر، و نفاهما المحقّقون، ثمّ القائلون بهما اختلفوا، فقال أبو علی الجبّائی: إنّ المتأخّر یسقط المتقدّم و یبقى على حاله، و قال أبو هاشم: إنّه
ینتفی الأقل بالأکثر، و ینتفی من الأکثر بالأقلّ ما ساواه، و یبقى الزائد مستحقّاً، و هذا هو الموازنة. (3)
و یبطل القول الأوّل أنّه یستلزم الظلم، لأنّ من أساء و أطاع و کانت إساءته أکثر، یکون بمنزلة من لم یحسن، و إن کان إحسانه أکثر، یکون بمنزلة من لم یسیء، و إن تساویا یکون مساویاً لمن لم یصدر عنه أحدهما و لیس کذلک عند العقلاء. (4)
و أیضاً ینافی قوله تعالى:
«فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ – وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ» (5)
و یردّ قول أبی هاشم ما ذکره المحقّق الطوسی بقوله: «و لعدم الأولویّة إذا کان الأخر ضعفاً، و حصول المتناقضین مع التساوی» (6)
توضیحه: أنّا إذا فرضنا استحقاق المکلّف خمسة أجزاء من الثواب و عشرة أجزاء من العقاب، و لیس إسقاط إحدى الخمستین من العقاب بالخمسة من الثواب أولى من الأخرى، فإمّا أن یسقطا معاً و هو خلاف مذهبه، أو لا یسقط شیء منهما و هو المطلوب. و لو فرضنا أنّه فعل خمسة أجزاء من الثواب و خمسة أجزاء من العقاب، فإن تقدّم إسقاط أحدهما
للآخر لم یسقط الباقی بالمعدوم لاستحالة صیرورة المعدوم و المغلوب غالباً و مؤثّراً، و إن تقارنا لزم وجودهما معاً، لأنّ وجود کلّ منهما ینفی وجود الآخر فیلزم وجودهما حال عدمهما، و ذلک جمع بین النقیضین. (7)
فإن قلت: لو کان الإحباط باطلًا فما هو المخلص فیما یدلّ على حبط العمل فی غیر مورد من الآیات الّتی ورد فیها أنّ الکفر و الارتداد و الشرک و الإساءة إلى النبیّ و غیرها ممّا یحبط الحسنات؟
قلت: إنّ القائلین ببطلان الإحباط یفسّرون الآیات بأنّ استحقاق الثواب فی مواردها کان مشروطاً بعدم لحوق العصیان بالطاعات.
و یمکن أن یقال إنّ الاستحقاق فی بدء صدور الطاعات لم یکن مشروطاً بعدم لحوق العصیان، بل کان استقراره و بقاؤه هو المشروط بعدم لحوق المعصیة.
قال الطبرسی فی تفسیر قوله تعالى: «وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ» (8) و فی قوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا یترتّب على ثبوت الثواب، فإنّ الکافر لا یکون له عمل قد ثبت علیه ثواب، و إنّما یکون له عمل فی الظاهر لو لا کفره لکان یستحقّ الثواب علیه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط، فهو حقیقة معناه». (9)
و بما ذکره الطبرسی یظهر جواب سؤال آخر، و هو أنّه إذا کان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصیان فکیف یطلق علیه الإحباط، إذ الإحباط إبطال و إسقاط و لم یکن هناک شیء یبطل أو یسقط؟
و ذلک لأنّ نفس العمل فی الظاهر سبب و مقتضٍ، فالإبطال و الإسقاط کما یصدقان مع وجود العلّة التامّة، فهکذا یصدقان مع وجود المقتضی الّذی هو جزء العلّة.
هذا کلّه فی الإحباط، و أمّا التکفیر فهو لا یعدّ ظلماً لأنّ العقاب حقّ للمولى و إسقاط الحقّ لیس ظلماً بل إحسان، و خلف الوعید لیس بقبیح عقلًا، و إنّما القبیح خلف الوعد، فلأجل ذلک لا حاجة إلى تقیید استحقاق العقاب أو استمراره بعدم تعقّب الطاعات، بل هو ثابت غیر أنّ المولى سبحانه عفی عبده لما فعله من الطاعات.
قال سبحانه:
«إِنْ تَجْتَنِبُوا کَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ وَ نُدْخِلْکُمْ مُدْخَلًا کَرِیماً» (10) (11)
هذا و لا یصحّ القول بالإحباط و التکفیر فی کلّ الأعمال، بل یجب تتّبع النصوص و الاقتصار بها فی ذلک.
1) الحدید: 20.
2) معجم المقاییس فی اللغة: 2 / 129، مادة «حبط»؛ و ج 5، ص 191، مادة «کفر».
3) کشف المراد، المقصد السادس، المسألة 7.
4) نفس المصدر.
5) الزلزلة: 7- 8.
6) کشف المراد: المقصد السادس، المسألة 7.
7) توضیح الدلیل للعلّامة الحلی، لاحظ: المصدر المتقدّم.
8) المائدة: 5.
9) مجمع البیان: 3- 4 / 163، لاحظ أیضاً ص 207، تفسیر الآیة 50 المائدة.
10) النساء: 31.
11) و فی معناها الآیة 29 / الأنفال؛ و الآیة 2 / محمّد.