قال سبحانه: «لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللَّهِ فِی شَیْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» (1)
هذه الآیة أیضاً کأُختها ناصّة على جواز التقیة، کما صرّح بذلک المفسّرون، کالطبری، و الزمخشری، و الرازی، و الآلوسی، و جمال الدین القاسمی، و المراغی و غیرهم، قال الأخیر:
قد استنبط العلماء من هذه الآیة جواز التقیة بأن یقول الإنسان أو یفعل ما یخالف الحق، لأجل التوقّی من ضرر یعود من الأعداء إلى النفس أو العرض أو المال. (2)
الإجابة عن سؤال
قد یقال: إنّ الآیتین راجعتان إلى تقیّة المسلم من الکافر، و لکنّ الشیعة تتّقی إخوانهم المسلمین، فکیف یستدلّ بهما على صحّة عملهم؟
و الجواب: أنّ مورد الآیتین و إن کان هو اتّقاء المسلم من الکافر، و لکنّ المورد لا یکون مخصِّصاً لحکم الآیة إذا کان الملاک موجوداً فی غیره، و قد عرفت أنّ وجه تشریع التقیّة هو صیانة النفس و العرض و المال من الهلاک
و الدمار، فإن کان هذا الملاک موجوداً فی غیر مورد الآیة، فیجوز، أخذاً بوحدة الملاک.
قال الرازی:
ظاهر الآیة (آیة آل عمران) إنّ التقیّة إنّما تحلّ مع الکفّار الغالبین، إلّا أن مذهب الشافعی إنّ الحالة بین المسلمین إذا شاکلت الحالة بین المسلمین و الکافرین حلّت التقیّة محاماة عن النفس، و قال: التقیّة جائزة لصون النفس، و هل هی جائزة لصون المال؟ یحتمل أن یحکم فیها بالجواز لقوله صلى الله علیه و آله: حرمة مال المسلم کحرمة دمه، و قوله علیه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهید. (3)
و قال المراغی فی تفسیر آیة النحل:
و یدخل فی التقیة مداراة الکفرة و الظلمة و الفسقة، و الإنة الکلام لهم، و التبسّم فی وجوههم و بذل المال لهم، لکفّ أذاهم و صیانة العرض منهم، و لا یعدّ هذا من الموالاة المنهی عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبرانی قوله صلى الله علیه و آله: «ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة». (4)
و التاریخ بین أیدینا یحدّثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من کبار المسلمین إلى التقیّة فی ظروف عصیبة، و خیر مثال على ذلک ما أورده
الطبری فی تاریخه عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة و المحدّثین فی زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً، و لما أبصر أولئک المحدّثون حدّ السیف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون فی دعواه و أسرّوا معتقدهم فی صدورهم، و لما عوتبوا على ما ذهبوا إلیه من موافقة المأمون برَّروا عملهم بعمل عمَّار بن یاسر (5) و القصة شهیرة و صریحة فی جواز اللجوء إلى التقیة الّتی دأب البعض على التشنیع فیها على الشیعة. و الّذی دفع بالشیعة إلى التقیّة بین إخوانهم و أبناء دینهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة، فلو لم یکن هناک فی غابر الزمان- من عصر الأمویّین ثمّ العباسیّین و العثمانیّین- أی ضغط على الشیعة، کان من المعقول أن تنسى الشیعة کلمة التقیة و أن تحذفها من دیوان حیاتها، و لکن یا للأسف أنّ کثیراً من إخوانهم کانوا أداة طیعة بید الأمویّین و العباسیّین الّذین کانوا یرون فی مذهب الشیعة خطراً على مناصبهم فکانوا یؤلّبون العامّة من أهل السنّة على الشیعة یقتلونهم و یضطهدونهم و ینکلون بهم، و نتیجة لتلک الظروف الصعبة لم یکن للشیعة، بل لکل من یملک شیئاً من العقل، وسیلة إلّا اللجوء إلى التقیّة أو رفع الید عن المبادئ المقدّسة الّتی هی أعلى عنده من نفسه و ماله و الشواهد على ذلک أکثر من أن تحصى.
1) آل عمران: 28.
2) تفسیر المراغی: 3 / 136؛ و لاحظ: تفسیر الطبری: 3 / 153؛ الکشاف: 1 / 422؛ مفاتیح الغیب: 8 / 13؛ روح المعانی: 3 / 12؛ محاسن التأویل: 4 / 82.
3) مفاتیح الغیب: 8 / 13.
4) تفسیر المراغی: 3 / 136.
5) تاریخ الطبری: 7 / 195- 206.